آراء وتحليلات
البادية السورية مخزن طعام الأثرياء.. والمن والسلوى زينتها
عبير بسّام
عندما نتحدث عن الصحراء، فإننا نرى ما يراه الكثيرون في الأفلام الأميركية: مساحات واسعة من الرمال، كثبان رملية وأعداد هائلة من النباتات الصبارية السامة. هذه الصورة النمطية التي تعكسها الأفلام الأميركية وأفلام الغرب الأميركي بالذات تجعل من المستغرب بالنسبة لأي منا أن يتخيل كيف يمكن لصحراء سوريا أن تؤمّن يوماً مصدر أي نوع من الغذاء لقاطنيها وأن تنشأ فيها أهم الممالك على مدى التاريخ. الحقيقة، أنه لا يمكن أن نطلق لقب الصحراء على المنطقة الممتدة من شرقي محافظتي حمص وحماة حتى الحدود العراقية - السورية، إنها البادية! والبادية واحدة من النعم التي اختُصَت بها بلاد الشام. إنها بادية الشام العزيزة، التي تربط ما بين البوادي العربية الممتدة من شبه الجزيرة وحتى العراق، والتي لا تفصل بينها أية موانع طبيعية، وهي خزان ثروات طبيعية وغذائية ضخمة، وما تنتجه البادية يعد بحق طعام الأثرياء.
نعم تؤمن البادية السورية أفخر أنواع طعام الأثرياء، مع العلم أن ما كانت تنتجه البادية السورية وسوريا من لحم ودواجن ومشتقات ألبان كان بمتناول الجميع ويستمتع به الجميع. وللأسف فإن سوريا تعاني اليوم من تخلخل في مستوى الأمن الغذائي بسبب تراجع مستوى الإنتاجين الزراعي والحيواني، كإحدى نتائج الحرب الضروس عليها وبسبب الإحتلالين التركي والأميركي بالذات. وتراجع انتاج الثروة الحيوانية في أهم مناطق انتاجها وهي البادية السورية، وبخاصة الغنم، اذ يحمي الإحتلال الأميركي المتمركز في منطقة التنف العصابات الإرهابية مثل "داعش" وما يسمى "جيش مغاوير الثورة"، حيث يقوم هؤلاء اليوم بمهاجمة الرعاة ومربي الماشية وسرقة مواشيهم وقتلهم في أحيان كثيرة.
تعد البادية السورية أحد أهم المراعي الطبيعية، والتي تمتد من أطراف ريف دمشق حتى الحدود العراقية شرقاً، وكانت تغني قبل العام 2011 أصحاب الماشية عن شراء العلف، وهذا الغذاء الطبيعي كان أحد أهم أسباب جودة الماشية في سوريا. كما تنتشر في البادية السورية مزارع الأبقار والدجاج، وهي مستحدثة بالتأكيد في مرحلة ما قبل الحرب، والتي تعرضت لتدمير كبير. كانت تؤمن هذه المزارع والمداجن السلع لجميع الفئات الشعبية بأسعار منخفضة من منتجات الدواجن من لحم وبيض، ومن المنتجات الحيوانية الكبيرة: اللحوم والألبان ومشتقاتها. لكن بقيت أسعار منتجات الغنم متمايزة بأسعارها عن منتجات البقر والماعز، وفي الحقيقة هذا لم يمنع أهل حماة وأهل الجزيرة السورية بمختلف فئاتهم الإجتماعية من الإعتماد على منتجات الأغنام من الألبان والأجبان. ولكن اليوم، وبسبب تردي الأوضاع الأمنية تراجعت أعداد قطيع الأغنام بالتحديد بعد غلاء أثمان الأعلاف والتوجه للإعتماد عليها، والتراجع في الإعتماد على هذا النوع من الغذاء وصل إلى نسبة 45%، بحسب منظمة الفاو.
وفق بيانات وزارة الزراعة السورية، قُدّرت الثروة الحيوانية من الغنم قبل الحرب بـ 25 مليون رأس، واليوم هي أقل من 10 مليون رأس، والتي كان من المفترض أن تتضاعف خلال السنوات الماضية ولكنها تعرضت للنهب والسرقة، وهناك حديث عن تهريب غنم العواس السوري إلى استراليا التي تعنى بتحسين وتربية الثروات الحيوانية بعد سرقتها خلال الحرب على سوريا واحتلال البادية فيها من قبل الجماعات الإرهابية والجماعات الكردية والأميركيين على حد سواء مما أضعف رقابة الدولة. إضافة إلى أن تربية الأغنام تتضاءل نسبياً قي البادية ولأسباب عدة: اذ هناك من يبث الرعب عبر اغتيال الرعاة أو اعتقالهم بتهمة العمالة للدولة ويتسبب بإبعادهم عن المرعى الطبيعي لأغنامهم وماعزهم، وتزداد خطورة المكان مع ازدياد هجومات "داعش" والسرقات التي يتعرضون لها.
والسبب الثاني، له علاقة بغلاء ثمن الأعلاف والذي قد يصل لملايين الليرات السورية مقابل كل 100 رأس غنم، والتي لا قدرة للمزارعين على تحملها. وهم كانوا يعتمدون على التغذية الرعوية الطبيعية في البادية السورية.
والسبب الثالث، هو زرع الألغام في البادية. فخرائط الألغام في البادية لا يمكن أن تبقى ثابتة، بسبب طبيعة البادية، التي قد تبقى لموسم كامل دون مطر ولكن في حال هبوط الأمطار فإنها تكون غزيرة وتتسبب بسيول جارفة، مما يؤدي الى جرف الألغام من منطقة محتلة إلى أخرى قد تكون محررة.
وتزدخر البادية السورية بمنتجات "المن والسلوى"، وهما ليستا الحلوى المعروفة، اذ تعرف الكمأة بأنها المن، وأما السلوى فهي طيور السمان المعروفة وذات الطعم الفاخر.
الكمأة هي نباتات تنمو في البادية السورية وأماكن أخرى مثل شبه الجزيرة العربية ومصر والسودان ولا يمكن زراعتها. ولكن أفضلها ينمو في البادية السورية والسودان وخاصة بعد هطول الأمطار الغزيرة. والسلوى، أو السمان، هي واحدة من 391 نوعًا من الطيور المهاجرة التي تمر عبر سوريا خلال مواسم هجرة الطيور ما بين إفريقيا وأوروبا، وهذا النوع يمر ما بين منتصف آذار/ مارس وحتى نهاية نيسان/ ابريل، ومن ثم يعود في تشرين الثاني/ نوفمبر وشباط/ فبراير من كل عام، ويمتاز بلحمه لفاخر لأنه يتغذى على ثمار الزيتون. وكانت البادية السورية تزخر بعدد من الحيوانات المحمية مثل الخيل العربي الشهير والمها والغزلان، وأنواع أخرى تعرضت للسرقة والنهب خلال الحرب على سوريا أو قتلت خلال القصف أو بسبب الألغام المزروعة. وأما الأنواع الأخرى التي تربى للحمها ولبنها فهي الجمال والماعز. وكانت منطقتي حمص وحماة واللتان تشكل البادية السورية جزءاً هاماً من أراضي المحافظتين تشتهران بثروة من الدواجن، وفيهما بنيت العديد من المداجن واللتان كانتا تزودان سوريا بأفضل أنواع الإنتاج الخالي من استخدام المواد الهرمونية، وانواع البيض ولحوم الدواجن المختلفة من الدجاج والفري والسمان وغيرها.
تشتهر بادية السخنة في ريف حمص الشرقي بأنواع "الزبيدي" الفاخرة من الكمأة وهي بيضاء اللون، وهناك أنواع مختلفة أخرى تنمو في البادية وهي "الخلاسي" ولونه قريب من الأحمر، و"الجيبي" ولونه أسود، و"الهوبر" ولونه أسود وداخله أبيض، ونحن عادة نجد هذان النوعان في أسواقنا، وفي المواسم يمكن شراؤهما بأسعار تتراوح ما بين 5-50$، في لبنان وما بين 10000- 50000 ليرة سوريا في أسواق المدن الكبرى في سوريا. والكمأة ليست فقط ذات قيمة غذائية كبيرة جداً تضاهي اللحم بنسبة البروتينات فيها وانخفاض السعرات الحرارية، بل هي ذات فوائد طبية كبيرة وخاصة كدواء للعين فهي علاج هام لكل من المياه الزرقاء والبيضاء التي تصيب العينين، إضافة إلى فوائد طبية كبيرة.
تعد الكمأة ثروة حقيقية، وهي من أغلى أنواع الغذاء عالمياً. اذ يصل سعر الكيلوغرام من بعض أنواع السمك أو لحم العجل الأبيض أو الأغنام الفاخرة إلي ما يقارب المئة دولار أميركي تقريباً، ولكن تصل أسعار الكمأًة في أوروبا، إلى 800- 1200 يورو للكمأة السمراء، وقد يصل سعر الأنواع المميزة منها وذات الأحجام الكبيرة حتى 2400 يورو. وتشتهر البادية السورية بالكمأة البيضاء "الزبيدي"، والتي يصل سعر الكيلوغرام منها في أوروبا إلى 4500 يورو، وفي السنتين الماضيتين وبسبب شح الأمطار وصعوبة جمعها وصل سعر الكيلو منها في إيطاليا إلى 8000 يورو.
يدّعي البعض أن الدولة السورية غير معنية بالمخاطر التي يتعرض لها الأمن الغذائي في البادية، ولكن هذا الكلام غير صحيح. فعندما تتحدث الوكالة السورية الرسمية للأنباء "سانا" في مقالاتها حول استهداف الارهاب لقطعان الأغنام، خاصة وأن هناك تقارير مفصلة على موقع "سانا" الرسمي، وحين يصرح المسؤولون عن مكاتب تنظيم ورعاية الثروات الحيوانية لمختلف المواقع الموالية والمعادية للدولة السورية حول التعديات في البادية السورية، يصعب التصديق بأن الدولة صامتة أو غير مبالية. ولكن ما دام الأميركي يرتع في تلك المنطقة ويحمي عصابات "داعش" فإن الحرب ليست فقط مع الإرهاب "الداعشي" بل مع الأميركيين أنفسهم الذين يحمون ويسلحون العصابات الداعشية في البادية والذين مايزالون حتى اليوم يهاجمون المواطنين من جَمَعَة الكمأة أو الرعاة ويقتلونهم كما حدث في نيسان الماضي، ويقتلون الأغنام ويرمون جثثها في البادية، ويتركون الرعاة ليعودوا ويخبروا عن قصص الرعب التي يمارسونها من أجل إخافة الباقين من الرعاة وأصحاب الغنم على حد سواء.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024