معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

الامام الخميني وشمولية الثورة الاسلامية
07/06/2023

الامام الخميني وشمولية الثورة الاسلامية

بغداد - عادل الجبوري

 لا شك أن المتابع والباحث في مسارات الحراك العام في ايران منذ عهد الشاه محمد رضا بهلوي (1940-1979) ومن ثم بعد انتصار الثورة الاسلامية، وحتى ما بعد رحيل الامام الخميني (قدس سره) في حزيران-يونيو 1989، لا يمكن له أن يقف على مجمل التحولات والمتغيرات الكبرى، من دون أن يتوقف ويحلل الخطاب المتعدد الأبعاد والجوانب الذي تبناه الامام الخميني منذ الانطلاقة الحقيقية لحركته الشاملة باتجاه التغيير في عام 1963. إذ إن هذا الخطاب بإطاره العام الشامل أتاح فهم المضامين والأهداف الحقيقية للثورة الإسلامية الايرانية، وأخرجها من حالة الاختزال السياسي- الفكري، لا سيما وأن الجانب الثقافي والاجتماعي في ذلك الخطاب شغل حيزًا كبيرًا.

ولعله كان واضحًا إلى حد كبير أن الإمام تناول بالتحليل الدقيق في معظم الأحيان مخاطر وتحديات القيم الثقافية والاجتماعية المبتذلة والمنحطة المستوردة من الغرب التي عمل النظام الشاهنشاهي على بثها وترويجها في أوساط الشعب الايراني المسلم بأشكال واساليب ومناهج مختلفة، من خلال قنوات التثقيف والتوعية الاجتماعية المتمثلة بالمدارس والجامعات ووسائل الاعلام المقروءة والمسموعة والمرئية وحتى الكيان العائلي، وتيقن أن عملية التغيير إذا اقتصرت على تغيير السلطة السياسية في القمة فقط ولم تكن عملية تغيير شاملة وكاملة فإن ذلك يعني ابقاء الحال على ما هو عليه بكل ما يشتمل عليه من مساوئ وسلبيات، لذلك فإن منهجه كان يقوم على أساس القضاء على كل المظاهر والظواهر الخاطئة بعناوينها المتعددة. بتعبير آخر، كان الإمام القائد الخميني(قدس سره) يهدف الى اصلاح الفرد ليكون ذلك مقدمة لاصلاح وبناء المجتمع بناء سليمًا ورصينًا ومحكمًا.

وقد اتخذت عملية البناء الاجتماعي الجديد أشكالًا مختلفة التقت كلها عند نقطة واحدة. فمثلًا تم اعادة النظر بصورة شاملة بمحتوى ومضمون ما تبثه وسائل الاعلام المرئي والمسموع والمقروء ولكن بصورة تدريجية حتى لا تتولد ردود فعل سلبية أو تقوم بعض الجهات بتوظيف بعض الهفوات والأخطاء لتحقيق أهداف خاصة، وتم كذلك وضع خطط علمية وصياغة مشاريع شاملة لأساليب إدارة المدارس والجامعات وتشخيص دورها في عملية البناء الاجتماعي الجديد من خلال المناهج العلمية الموضوعة التي من المفترض أن تعكس جوهر الثقافة الاسلامية الأصيلة بعيدًا عن الثقافات الغربية والشرقية الوافدة، وكذلك تم تشكيل مؤسسات ومراكز ذات طابع ثقافي وفكري واجتماعي من قبيل منظمة الاعلام الاسلامي ومؤسسة الفكر الاسلامي، اضافة إلى ذلك اعطاء الحوزة العلمية دورًا أكثر فاعلية وحيوية في التوجيه والتثقيف وبث الوعي.

وتبلورت عملية البناء الاجتماعي الجديد عبر مظاهر شتى، منها انتشار الحجاب الاسلامي لدى أوساط النساء بشكل واسع، وزيادة الاقبال- وخصوصًا من قبل جيل الشباب- على ارتياد المساجد وأماكن العبادة، وتزايد أعداد طلبة المدارس الدينية، وشيوع الثقافة القرآنية من خلال توجه النشأ الجديد الى قراءة القرآن وحفظه وتلاوته، وحرص النظام الاسلامي على اقامة المسابقات المحلية والدولية في هذا المضمار، والغاء الأماكن العامة التي كانت تساهم في نشر الفساد والرذيلة في داخل الأوساط الاجتماعية المختلفة.

وكان تصويت الأغلبية المطلقة من الشعب الايراني على اختيار نظام الجمهورية الاسلامية في ظل ممارسة ديمقراطية حقيقية بعيدًا عن أي ضغوط وتهديدات مؤشرًا حقيقيًا على طبيعة التوجهات الصحيحة للشعب، ومؤشرًا حقيقيًا على أن عملية البناء الاجتماعي الجديد ستقطع أشواطًا طويلة في فترات زمنية قصيرة.

وربما كانت الحرب التي شنها نظام "حزب البعث" المنحل في العراق على الجمهورية الاسلامية بعد وقت قصير من انتصار الثورة قد ساهمت بشكل أو بآخر في ايلاء قدر أكبر من الاهتمام بالبعد الثقافي- الاجتماعي لأن الحرب لم تكن في واقع الأمر حربًا عسكرية تقليدية فحسب، بل إنها مثّلت تحديًا قيميًا كبيرًا وخطيرًا للثورة الاسلامية. وقد نجحت الثورة بفضل حكمة قائدها، في مواجهته واحتوائه بصورة غير متوقعة بتاتًا. ففي الوقت الذي كانت تراهن القوى الخارجية على شريحة الشباب لافشال الثورة والقضاء على النظام الاسلامي، انخرط عشرات الآلاف من هؤلاء الشباب في قوات التعبئة الشعبية (البسيج) للدفاع عن مبادئ وقيم الثورة، وقد كان لهؤلاء الدور الحاسم في قلب الموازين العسكرية وتغيير التوقعات.

وفي هذا السياق، فإن مفردات ومفاهيم ثقافة الجهاد وثقافة الاستشهاد أصبحت شائعة ومألوفة، بل وأكثر من ذلك فإنها مثلت المحاور والمفاصل المهمة في مجمل المنظومة الثقافية للثورة الاسلامية، وقد رأى مفكرون ومحللون غربيون أن سر انتصار الايرانيين على النظام العراقي في وقت كانوا يعيشون أوضاعًا قلقة تمثل بمفردتي الجهاد والاستشهاد وليس بشيء آخر.

وشخّص الكثيرون حقيقة أن عملية التحول من واقع الى واقع آخر مختلف تمامًا، تعد بحد ذاتها شيئًا خطيرًا ومن الصعب أن يكتب لها النجاح إذا لم تتوفر لها الأرضيات المناسبة ماديًا ومعنويًا وروحيًا، وهذا انطبق على الثورة الاسلامية والمجتمع الايراني. في ذات الوقت، فإن عملية التحول تلك احتاجت الى مجموعة من الرموز الدينية والفكرية والسياسية والثقافية، وبالفعل فإن وجود رموز مثل الشهيد مرتضى مطهري والشهيد محمد حسين بهشتي والشهيدين محمد علي رجائي ومحمد رضا باهنر وكذلك مصطفى جمران وآخرين غيرهم، أعطى الثورة الاسلامية الايرانية شمولية وجاذبية أكبر وساهم في تأصيل وترسيخ قيمها ومبادئها.

وعلى العكس تمامًا من توقعات بعض الأوساط الخارجية من أن غياب أو تغييب الرموز كان كفيلًا بأن يسرع في انهيار الثورة، فقد ضخ استشهاد هؤلاء دماء جديدًا في شرايين الثورة، وزاد من حماس جيل الشباب الذي كان يرى أن من أهم الواجبات الملقاة على عاتقه هو الحفاظ على الانجاز التاريخي الذي حققه الامام الخميني.

أضف إلى ذلك فإن مجريات الأمور والأحداث والوقائع التي شهدتها مرحلة ما بعد الحرب وبعد رحيل الامام الخميني (قدس سره)، أثبتت هي الأخرى خطأ الكثير من القراءات السطحية التي ذهبت إلى أن مرحلة الثورة انطوت صفحاتها وبدأت مرحلة الدولة، وهذا يستدعي- بحسب تلك القراءات السطحية - حصول جملة متغيّرات على صعيد الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي، من بينها اضمحلال وذوبان ثقافة الجهاد والحرب والاستشهاد ارتباطًا بنهاية الحرب وغياب الرمز الأول، وكذلك طبيعة التحولات والمتغيرات العالمية بعناوينها ومظاهرها المختلفة التي كان لا بد أن تدفع ايران إلى الانفتاح أكثر فأكثر على الآخرين، سواء في المحيط الاقليمي أو الدولي، لكن في واقع الأمر فإن حالة الانفتاح السياسي الكبير الذي طرأ على السياسة الخارجية الايرانية منذ بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي وحتى اليوم، لم ترافقه مثلما كان يراد أو كان متوقعًا حالة انفتاح اجتماعي وثقافي عشوائي، وتنصلًا عن الثوابت التي وضعها وكرّسها ورسخها الإمام الخميني، وانما حصل العكس، فقد بدا واضحًا أن قيم الثقافة الاسلامية أخذت تترسخ وتمتد جذورها عميقًا من خلال الاهتمام بالثقافة القرآنية اهتمامًا كبيرًا ونشر وترويج الكتب والمطبوعات التي تتمحور في مضامينها ومحتواها على صيانة القيم الدينية والوطنية ونبذ القيم الثقافية الدخيلة، والحرص على استمرار التأكيد على مفردة ثقافة الجهاد والتضحية. ولعل الاهتمام بقضايا ومشكلات العالم الاسلامي، خصوصًا القضية الفلسطينية والصراع مع الكيان الصهيوني من قبل الأوساط الرسمية والشعبية الايرانية، وظهور محور المقاومة بقيادة الجمهورية الاسلامية الايرانية، ساهم في ابقاء مفردة ثقافة الجهاد والتضحية حيّة في النفوس، وفوق ذلك جعل ايران ومعها أصدقاءها وحلفاءها يزدادون قوة وثقة وتماسكًا، وخصومهم يزدادون ضعفًا وتشتتًا وانكسارًا. والوقائع والحقائق على الأرض تؤكد ذلك في هذا الوقت الذي يحيي الايرانيون وغير الايرانيين الذكرى السنوية الرابعة والثلاثين لرحيل الامام الخميني، الذي مازال حاضرا بقوة في كل النفوس والقلوب قبل الصور والشعارات والعناوين.    

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات