آراء وتحليلات
العراق: صراع الممرات والمعابر
حيّان نيّوف
عند الحديث عن العراق لا يمكننا القفز فوق الحقائق الجغرافية والتاريخية والاقتصادية والديمغرافية لهذا البلد الموغل في التاريخ.
شكّل العراق وما يزال مركزا للاستراتيجيات الكبرى للقوى والإمبراطوريات العظمى عبر التاريخ نظرا لما يتمتع به من موقع جغرافي استثنائي وضعه في قلب العالم القديم بالإضافة لما يمتلكه من ثروات اقتصادية مائية وزراعية. وفي العصر الحديث كان النفط ومؤخرا الغاز، كما يمتلك العراق مكانة عقائدية اكتسبها من التنوع العرقي والديني الذي يحويه.
تمتد الجغرافيا العراقية على مساحة كبيرة تبلغ 430 ألف كيلومتر مربع بين إيران في الشرق وبلاد الشام غربا، وبين الخليج جنوبا وتركيا شمالا. وتشكل الجغرافيا العراقية فاصلا بين العالم العربي وأكبر قوتين اقليميتين هما ايران وتركيا اللتين يشترك معهما بحدود طويلة. ويضم العراق تنوعا عرقيا يشكل العرب غالبيته بالإضافة الى الكرد في الشمال، وتنوع مذهبي مهم بالإضافة إلى وجود العتبات المقدسة فيه. ويعبر العراق من الشمال الى الجنوب اثنان من أهم الممرات النهرية في العالم هما الفرات ودجلة، كما ويتوسط بموقعه الجغرافي المسطحات المائية الاكثر اهمية في العالم. ويعتبر العراق واحدا من أهم منتجي النفط في العالم ومؤخرا أظهرت الدراسات احتواءه على كميات جيدة من الغاز الطبيعي.
كل ذلك جعل العراق محطا لاهتمام القوى العظمى وممرا ومعبرا لخطوط التجارة والنقل البرية والبحرية بين قارات العالم القديم وشكّل السبب الرئيسي للغزو الأميركي الأطلسي للعراق وما تبعه من تقلبات واضطرابات سياسية وصراع داخلي خارجي على ارض العراق وصولا لظهور تنظيم داعش والذي شكّل النسخة الأخيرة للتدخل الأمريكي الأطلسي لتبرير الهيمنة والاحتلال واستمرار النفوذ قبل أن يتم إسقاط هذا التنظيم على يد دول محور المقاومة وحلفائها، في العراق وسورية بشكل شبه كامل، هذا المحور الذي رفع شعار إخراج القوات الأمريكية من غرب آسيا بما فيها العراق وسورية.
اليوم وفي ظل الحرب الأوكرانية والمخاض العالمي لولادة عالم جديد متعدد الأقطاب والانزياحات الجيوسياسية الكبرى ما بين الشمال والجنوب والغرب والشرق، عاد الاهتمام العالمي بالعراق مع طرح العديد من مشاريع الممرات البرية والبحرية وخطوط النقل والطاقة في آسيا وبين آسيا واوروبا وآسيا وافريقيا وبما يضمن سلاسل التوريد بعيدا عن الطرق والممرات البحرية التقليدية والتي شكل البحر الأحمر وقناة السويس المحور الرئيسي لها طوال القرن الماضي.
أهم تلك المشاريع التي طرحت كان مشروع الحزام والطريق الصيني الذي كان من المفترض أن يمرّ عبر العراق من ميناء البصرة وصولاً الى ساحل البحر المتوسط عبر ميناءي اللاذقية وبيروت، قبل أن يتعرض هذا المشروع لضغوط واضحة من قبل القوى المناوئة له في الغرب حتى لو لم تعترف بذلك، فجرى تفجير مرفأ بيروت وبعد ذلك جرت محاولة لتفجير ميناء البصرة عبر سفينة تحمل اطنانا من المتفجرات ومن ثم تعرّض ميناء اللاذقية لاعتداءات من قبل الكيان الصهيوني، وكل ذلك كان يصب في خانة واحدة هدفها منع مرور مشروع الحزام والطريق الصيني او ما يعرف بطريق الحرير العراقي، ولاحقا تم اسقاط الحكومة العراقية لمجرد أنها قررت توقيع اتفاقية استراتيجية مع الصين لتطوير ميناء البصرة.
المشروع الثاني كان ممر شمال ــ جنوب الإيراني الذي يربط روسيا بالمحيط الهندي عبر ايران وتطويره لاحقا عبر خط من الشرق للغرب "شملجة ــ البصرة اللاذقية" من إيران الى المتوسط عبر العراق بواسطة خطوط سكك حديدية وخطوط لنقل الطاقة، وهذا المشروع ما زال قائما وتم البدء بتنفيذه بين شملجة والبصرة وجرت اجتماعات بين الأطراف الثلاثة حوله.
الردّ الامريكي الاطلسي على هذا المشروع بشقيه (شمال ــ جنوب و شرق ــ غرب) لم يتأخر، واللافت أنه وبعيد التوقيع بين روسيا وايران على تنفيذ الوصلة الاخيرة من ممر شمال ــ جنوب وإعادة طرح ممر شرق ــ غرب، ظهرت للعلن فكرة مشروع طريق التنمية العراقي الذي يمتد من الفاو الى البصرة ومنها للشمال الى تركيا فأوروبا ويشمل المشروع طرقا بحرية وبرية وسكك حديدية، وتمت الدعوة بشكل فوري إلى اجتماع اقليمي بهذا الخصوص في بغداد وبتأييد من السفيرة الاميركية في بغداد، تزامنا مع قيام الولايات المتحدة بتعزيز وجودها العسكري في الشمال الشرقي السوري واستجلاب اسلحة ومعدات عسكرية جديدة للمنطقة. وبالرغم من ان الدول المحيطة بالعراق كانت مدعوة لحضور مؤتمر طريق التنمية العراقي، وبالرغم من انها أبدت تأييدها للمشروع، فإن ذلك لا يلغي علمها بالغايات والاهداف الامريكية التي تقف خلفه.
أمام تلك المعطيات وزحمة مشاريع الممرات البرية والبحرية، وموضع ذلك كله في الصراع الإقليمي والعالمي، وموقعه في استراتيجيات القوى الكبرى، يمكن القول إن العراق يشكل مفتاح الحل والاشتباك الإقليمي والعالمي، وإنه من دون الاتفاق على تسوية تخص العراق وموقعه فإن الاشتباك سيبقى محتدما في الإقليم وحوله بما يمنع الافرقاء من تمرير مشاريع النقل التي تضمن سلاسل التوريد إلى ان يحسم أحد الطرفين المعركة لصالحه.
بالمحصّلة؛ فإنه بالنظر إلى خريطة الصراع العالمي في الإقليم ومحيطه وارتباطها بالصراع العالمي و إلى نتائجها الحالية، كل ذلك يؤكد ان الكفة ليست في صالح الغرب والولايات المتحدة، في باب المندب ومضيق هرمز ومعبر القائم/ البوكمال وفي شرق المتوسط "كاريش" وفي تركيا وقزوين وفي داخل العراق وغيرها، وأن ذلك كلّه شكّل الدافع الرئيسي للتسويات والاتفاقات وحالة الانفتاح التي شهدها الإقليم بعلم وقبول من الولايات المتحدة التي ليس أمامها إلا الخضوع لخيار الضرورة الحتمي والقبول بالتسوية في ظل تراكم الخسائر والتراجعات التي تتعرض لها، وأنها ــ أي الويات المتحدة ــ تسعى لتسوية تخص العراق اولا قبل أن تعلن انقلابا في استراتيجيتها الإقليمية وتتوقف عن المكابرة، وخاصة بعد فشل مشاريعها التي طرحتها سابقا لسلخ العراق من محيطة وإلحاقه بمشاريعها الإقليمية (مشروع الشام الجديدة، حلف النقب، الناتو الشرق اوسطي، مؤتمر بغداد).
أخيراً؛ فإنه لا بد من الإشارة إلى واحدة من أهم أوراق القوة التي تواجهها الولايات المتحدة، والمتعلقة بأمن الكيان الصهيوني، بل وبوجوده، هذه الورقة تتمثل بخطر "العبور إلى الجليل" وهي المعادلة الجديدة التي أعلنتها وثبتتها المقاومة الإسلامية في لبنان كواحدة من استراتيجياتها العسكرية والجيوسياسية، بل إن هذه المعادلة باتت مرتبطة بشكل واضح بمعادلة إخراج الاميركي من العراق وشرق سورية إلى الحد التي يمكن طرحها تحت صيغة "الخروج أو العبور".
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024