آراء وتحليلات
عبثية التناول لتمرد "فاغنر" والمراجعة الروسية المطلوبة
ايهاب شوقي
رغم أن الأمر بدا خطيرًا ومفاجئًا، وبدت تطوراته سريعة ومتلاحقة وتتجه لقلب الطاولة بشكل درامي في روسيا، إلا أن السوابق الإعلامية كانت تحتم المزيد من التروي، حيث كانت نفس وسائل الإعلام ذات مرّة تبث على الهواء سقوط النظام السوري ومحاصرة القصر الرئاسي ونهاية غريمهم الرئيس بشار الأسد، وثبت بعدها أنها كانت حربًا نفسية ودفعًا نحو الفوضى الشعبية لخدمة أغراض ميدانية.
وتناوُلُ ما حدث من تمرّد مسلّح قاده قائد مجموعة "فاغنر" يفغيني بريغوجين، من منظور المؤامرة الخارجية أو من منظور ضعف الجبهة الداخلية الروسية وانقسامها، هو أمر يفتقد للدقة والأدلة، بل وحتى للقرائن والشواهد، ولكن المدخل الإنساني ربما يكون الأدق لتفسير ما حدث وخاصة أنه تدرج وجاء بشكل تراكمي وله مقدمات، كما أن له نظائر في التاريخ سواء الحديث أو القديم.
وربما رجل بدأ حياته كلص ثم وجد نفسه رجلًا للأعمال تتسع صلاته بالدولة وبرئيسها، وحقق نجاحات عسكرية بعد تأسيسه لشركة خاصة، وأجبرت ظروف المعركة على الاستعانة به في الجبهات، قد وجد في نفسه طموحات لأمور أكبر من مجرد مساعد ووجد لنفسه دورًا عسكريًا أكبر من العسكريين أنفسهم، فتوهم أنه يحارب بشركته حلف الناتو وأمريكا وأنه لا يحظى بالشهرة والتقدير اللائق لهكذا انجاز تاريخي ومعجزة متوهمة، متجاهلًا الأبعاد الأخرى السياسية والاستراتيجية والعسكرية والنووية التي راكمتها الدولة الروسية، وهو ما أفقده صوابه وقاده إلى محاولة انتزاع المكانة اللائقة به وفقًا لتقديره.
وكمدخل مباشر، ربما نرى أن ما قاله رئيس جمهورية الشيشان الروسية رمضان قديروف، هو التوصيف الأكثر دقة وملامسة للحدث، حيث قال قديروف: "إن يفغيني بريغوجين، من أجل طموحات شخصية "بصق" على الارتباط بالوطن وحبه".
وما يهمنا هنا هو وضع الحدث في سياقه الموضوعي واستلهام الدروس، بعيدا عن الثرثرة الإعلامية ومحاولات الإثارة والتطرف سواء في دعم التمرد أو في شيطنة بريغوجين.
وربما كان الاتفاق الذي أنهى هذا الحدث الخطير بوساطة بيلاروسيا، يخدم هذه المقاربة، حيث جاءت البنود التي كشف عنها كما يلي:
1- بعض مقاتلي "فاغنر" ممّن رفضوا منذ البداية الانخراط في "حملة" بريغوجين، ستتاح أمامهم إمكانية الانضمام لصفوف القوات المسلحة الروسية والتعاقد مع وزارة الدفاع.
2- لن يخضع هؤلاء لأي ملاحقة قانونية.
3 - عودة قوات شركة "فاغنر" إلى معسكراتها.
4 -الجزء الذي لا يرغب في العودة إلى المقار والمعسكرات يوقع اتفاقيات مع وزارة الدفاع الروسية.
5- إغلاق القضية الجنائية بحق بريغوجين وسيغادر إلى بيلاروس.
وهو ما يقود إلى أن توصيف جميع الأطراف بأن الأمر لم يصل إلى درجة التخطيط المسبق والممنهج للخيانة والانقلاب وأن ما حدث لا يتخطى كونه فعلا خيانيا طارئ لا تترتب عليه مواجهة شاملة في وسط معركة حاسمة ومفصلية في التاريخ الروسي، وأنه قابل للاحتواء بشرط إصلاح الوضع القائم الذي تراكم وقاد إلى هذه المأساة.
وهنا ينبغي رصد السياق الذي قاد إلى هذا الوضع كما يلي:
1- مبدئيًا فإن التطوع الخارجي للمشاركة في حروب تقودها المبادئ أو الأهداف المشتركة هو أمر لا يختلف عليه أحد، بينما الاستعانة بشركات خاصة أو مرتزقة في الحروب الوطنية هو خطأ بالغ ولا يمكن الدفاع عنه.
ولكن في الوضع الراهن فإن الحرب التي أجبرت عليها روسيا بعد محاولة حصارها في جبهتها الأكثر حساسية وخطورة في أوكرانيا، أباحت بعض المحظورات، خاصة أن أوكرانيا استعانت بشركات المرتزقة، وأن روسيا لم تكن فيما يبدو جاهزة بالشكل الكافي لحرب طويلة الأمد مع حلف الناتو بأكمله، والذي عقد من المعركة وخطورتها البرية على الجيش الروسي الذي قضى فترة طويلة دون حروب برية وتجهيز للجنود لخوض اعمال برية في ظروف جغرافية ومناخية بالغة التعقيد والصعوبة.
ومؤخرًا كشف موقع "إنتلجنس أونلاين" عن استمرارية عمل عدة شركات أمنية وعسكرية خاصة في أوكرانيا، واتساع دائرة توظيفها جنوداً سابقين، ومتعاقدين أمنيين.
وذكّر الموقع بانهيار مجموعة "موزارت" العسكرية الأميركية، لكنّه أكّد على أنّ شركاتٍ خاصة أخرى، عوضت غيابها، وما زالت تقوم بالتوظيف، وأنّه يوجد طلب كبير على هذه الوظائف، علماً أن شركات من المملكة المتحدة و"إسرائيل" وإستونيا وألمانيا وألبانيا نشطت مؤخراً في أوكرانيا.
وأوضح "إنتلجنس أونلاين" أنّ أنشطة شركة التعاقد العسكري الخاصة "iron navy"، المستمرة بالعمل في أوكرانيا، تُعد مجرد مثال على كيفية استمرار المتعاقدين العسكريين في العمل، وتجنيد أفراد من جميع أنحاء العالم.
ومن هنا يمكن تفهم استعانة روسيا بشركة فاغنر خاصة وأن مؤسسها روسي ويعد مصدر ثقة لدى الرئيس بوتين، وهو ما قاد إلى ارتفاع أعداد فاغنر المشاركة بالمعركة من 1000 إلى ما يزيد عن 20 ألف مقاتل في أوكرانيا.
2- منطق الجيوش هو الحرص على الانضباط وإعطاء الأولوية للقوات النظامية وهو ما خلق تناقضا حقيقيًا بين القادة الروس وبين بريغوجين والذي يجد نفسه نظيرًا لهم بل ومتميزًا عنهم بمستوى تدريب قواته، وهو لغم حقيقي في قلب أي معركة قادت إليه الظروف.
3- لا تصح المبالغة في قوة اختراق أمريكا أو أجهزة الاستخبارات الأخرى لدرجة اختراق الجبهة العسكرية واستقطاب قائد مجموعة فاغنر لخلق حرب أهلية وسط معركة مصيرية، لأن هذا أمر يفتقد الأدلة بل والمنطق، حيث يفترض غياب تام للاستخبارات الروسية ويفترض أن هناك قادة آخرين بالجيش الروسي على تنسيق معه لأن نجاح المؤامرة المزعومة يتطلب مشاركة أسلحة أخرى معه، حيث لا تستطيع شركة خاصة مهما بلغت قوتها السيطرة على دولة بحجم روسيا.
وربما العودة لتصريحات بريغوجين نفسه توضح الأمر بدقة، حيث قال إن هدفه "ليس انقلابا عسكريا بل مَسيرة نحو العدالة"، وقال إن خلافه ليس مع الجنود الروس في أوكرانيا، بل مع "المهرجين" الذين يقودونهم، وفقا لقوله.
وربما الدروس المستفادة هنا، يأتي على رأسها أن الاستعانة بتنظيمات خارج إطار الانضباط العسكري هي قنبلة موقوتة وأن التعامل الروسي مع المعركة المصيرية والتي تحارب بها أمريكا والناتو عمليًا ينبغي مراجعته وتوصيفه وإخراجه من مسمى "العملية الخاصة" إلى مسماه الحقيقي وهو الحرب الوجودية، وبالتالي رفع العديد من القيود والمكبلات التي ورطت روسيا في هذه المخاطر مراعاة لقوانين نظام عالمي لا يعترف بالقانون الا بشكل انتقائي يخدم أهدافه.
ربما رصدت روسيا من وقف بجانبها وعرض المساعدة وربما رصدت وسائل الإعلام واحتفاءها بالانقلاب وخدماتها الإعلامية لأجندة "الناتو" رغم ادعاء مالكيها الحياد!
ليست دعوة لارتكاب مجازر أو جرائم حرب، ولكن دعوة للجدية في التعامل مع الموقف وفي تعميق التحالفات وعدم الرهان على المتأرجحين والمنافقين.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024