آراء وتحليلات
موسم الحج.. نظرة جديدة
يقف المسلمون اليوم، في يوم عيد الأضحى، بدلالاته ومعانيه، في خضم تحدٍ هائل حول تغيير الواقع المؤسف الذي انزلقت إليه الأمة، دون وعي وربما بلا عقل، وفي حاجة شديدة إلى قراءة الحاضر بطريقة سليمة، ثم نقده، وصولًا إلى فهم ما الذي أوصلنا إلى هنا، وكيف وصلنا، خصوصًا ما يتعلق منه بأساسيات الدين وفروضه.
تحولَ الحج، ركن الإسلام، تحت عباءة آل سعود إلى شكل رأسمالي استهلاكي فج، يتمظهر بالعقيدة فيما هو متاح للأغنياء، أو من تماهى مع الزمن السعودي الأغبر، من شعيرة إسلامية تحض على التضحية والبذل إلى نوع ركيك من الدعاية الساقطة لنظام وأشخاص، والواقع أنه مع التطور الهائل في وسائل النقل منذ منتصف القرن العشرين على الأقل، وما أتاحته من سرعة الوصول إلى الأراضي المقدسة، فإن المناسبة الدينية المقدسة صارت فرصة هائلة للربح ومناسبة لمد مظلة القدسية نحو ملوكها، أو الأمران معًا كما هو الحال اليوم.
ولعل أصعب ما يواجه العقل هو أن يقرر نقد الرأي العام الغالب، والسير في طريق عكس الوجدان الجمعي الثابت، بسبب الموروث أو التقليد. لا شك في أن آل سعود حكام الجزيرة العربية والمسيطرين على أقدس الأماكن الإسلامية قد حولوا الحديث عن عملية "الحج" إلى ممنوع، ومناقشة تنظيمه ومستقبله إلى مقدس لا يطرح، وسواء جاء عبر إعلامهم المدفوع والمسخر، أو بسبب ما تقدمه من منح وزيارات مجانية لوفود دينية عربية، تستلزم تاليًا موقفًا جماعيًا رسميًا يدفع عنها، فإنها نجحت إلى حد بعيد في وأد الأصوات المختلفة.
الحديث عن الحج هو مصلحة إسلامية، تجمع ملياري مسلم على وجه الأرض، يؤمنون أن القيام بهذه الرحلة المقدسة ركن أساسي في عقيدتهم، ذلك ما استطاعوا إليها سبيلًا، وبالتالي فإن مناقشة المسألة تتجاوز بكثير نظام حكم طارئ، نجح أن يقيم دولة منذ أقل من قرن، ويتجاوز كذلك المجتمع السعودي المهمش، قليل العدد ضعيف التأثير، إنه أمر عقائدي يخص كل مسلم بشكل شخصي جدًا، ومجرد.
بداية وبداهة، لا تنفق المملكة ولا أسرة آل سعود على الحجاج، والوافدون إلى المملكة يمثلون ثاني أهم مورد للموازنة السعودية، وفي عام 2022 –رغم عدم التعافي الكامل بسبب كورونا- حققت المملكة نحو 12 مليار دولار من "السياحة" الدينية، تقارب نحو 2.7% من الناتج المحلي الإجمالي للملكة، التي تعتمد بشكل شبه كامل على النفط كمورد هائل للموازنة.
وفيما يتعلق بالنمو المخطط لقطاع الحج والعمرة، والسياحة الدينية المقدسة إلى الحجاز، فقد توقعت شبكة "فيتش سوليوشنز" أن يعاود هذا القطاع تعافيه بالكامل في العام 2023، عقب التراجع الكبير بسبب تفشي فيروس "كورونا"، وقالت الشبكة إن السعودية استقبلت 900 ألف حاج و7 ملايين معتمر في 2021، لكنه سيصل إلى 20 مليونًا في 2024، وسيواصل النمو مع الزيادة الاستيعابية المقررة في مناطق المشاعر المقدسة والفنادق والبنية التحتية ليصل إلى 35 مليونًا بحلول 2030، وفقًا لأهداف رؤية ابن سلمان المستقبلية.
ورؤية المملكة 2030، تريد أن ترتفع بما تصفه "حجم سوق السياحة الدينية" من 150 مليار دولار، كما تقول اليوم، إلى 350 مليارًا خلال 7 سنوات فقط، بما يعني بشكل مباشر أن الخزينة السعودية تريد أن تنتعش بمئتي مليار دولار من جيوب الحجاج!.
والمشروعات المستقبلية التي تروجها السعودية، في مجال البنية التحتية واستثمارات النقل ومشروع القطار الكهربائي الرابط بين المشاعر المقدسة، كلها تأتي بهدف واحد وأعلى هو زيادة الطاقة الاستيعابية للأماكن المقدسة، ويتزامن معها ارتفاعات قياسية وضخمة في تكلفة تأدية الفريضة على عموم المسلمين، خدمة مقابل المال على طريقة "ادفع تنل".
الإسلام لم يعرف في كل تاريخه الممتد هذا النوع من الممارسة، صحيح أن الحكام المستبدين أبدعوا عبر تاريخنا في سرقة الخطاب الديني واحتكروا السلطة بتفسيراتهم الشيطانية، نهبوا الأموال وتمتعوا بجنات النعيم على الأرض، مقابل جهنم للمحكومين المحرومين، واجتزأوا النص مدعين الفهم الوحيد الصحيح للدين، لكن لم يسبق أن وقفنا بإزاء مصيبة من هذا النوع الجديد، أن يتم تسليع الدين بشكل سافر ومباشر، بما يذكرنا ربما بصكوك الغفران التي ابتدعتها الكنيسة الكاثوليكية الرومانية في عصور أوروبا المظلمة.
النفقات الباهظة "المفترضة" لمشروعات توسعة أماكن الإقامة بمكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة، لا تأتي على سبيل إحسان الملوك للعبيد، بل هي مشروع يطرح ويناقش على أساس أنه عمل تجاري بحت، يبحث عن الربح، ومقابل كل دولار سيدفعه يبحث عن عشرة أضعافه من القادمين للأراضي المقدسة، وشئنا أم أبينا فإن الواقع الجديد سيفرض في السنوات المقبلة شعار الحج للأغنياء، وهو في هذا لا يحتاج لتدخل حكومات إسلامية أو دول، لكنه يحتاج إلى فهم لمقاصد ابن سلمان الخبيثة من وراء ما ينشره إعلامه وذيول إعلامه، من متبرعي العمالة.
إن المهمة المفترضة والأولى للإعلام، بشكل عام، هي تقديم المشهد للقارئ كما هو، دون مؤثرات مقصودة ولا توجيهات خبيثة، إعلام لا يتطوع من تلقاء نفسه أو انسياقًا وراء رغبة مشغليه ومموليه لتقديم ما يزعم أنها الحقيقة، أو أنها الإجابة الشافية، بل يقدم الأحداث ويبسط الرؤى والحيثيات للناس، الذين يحاولون بعدها أن يشحذوا عقولهم وملكات النقد والمعرفة، ليختاروا طواعية الجانب الذي يرون أنه الصحيح.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024