معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

فرنسا العظمى أم فرنسا الكرتونية؟
07/07/2023

فرنسا العظمى أم فرنسا الكرتونية؟

حيّان نيّوف

ليست المرّة الأولى التي تشهد فيها شوارع وضواحي باريس خصوصًا وكامل المدن والأحياء الفرنسية عمومًا هذا النوع من الاحتجاجات والاضطرابات وأعمال الشغب، فلطالما شهدت فرنسا موجات مشابهة كانت كلّ منها تستمر لفترة ثم تتوقف، وشهدت السنوات الأخيرة وتحديدًا منذ العام 2018 العديد من حركات الاحتجاجات فيما عرف في حينها بثورة السترات الصفر.
 
تلك الموجات المتكررة من الاحتجاجات وإن اختلفت في الأسباب المباشرة التي أدّت لانطلاقها، فمرة تكون لأسباب اجتماعية وأخرى لأسباب معيشية أو لأسباب عرقية أو دينية أو عنصرية، غير أنها في مجملها تشترك في عوامل رئيسية داخلية تمثل انعكاسًا وترجمة للخارج الخفي الذي يتلاعب بالداخل الفرنسي خصوصًا وأوروبا عمومًا وأقصد الدولة العميقة التي تمثّل الإدارة الأمريكية واجهتها.

ففي أوروبا عمومًا وفرنسا خصوصًا، لا مكان للثورات الحقيقية في ظل تحكم الماكينات الإعلامية المرتبطة بمركز القرار الأمريكي، ذاك المركز الذي يعمل على توجيه الرأي العام وفقًا لمصالح الدولة العميقة وواجهتها المتمثلة بالإدارة الأمريكية. فمثلًا في العام 2018 كان الرئيس الفرنسي قد غرّد بعيدًا خارج السرب الأمريكي/الأطلسي، وكان لا بد من لجم القيادة الفرنسية ومعاقبتها، فكانت ثورة السترات الصفر.

اليوم بدا المشهد أكثر قسوة، والتحرك أوسع وأشمل، وأوحى أن التحركات تنذر بعواقب وخيمة على فرنسا، فما الذي استدعى كل ما يحصل؟ وهل كانت تلك الحركة الاحتجاجية في إطار معاقبة القيادة الفرنسية؟ أم أنها تدخل في إطار التكتيك والنهج المطلوب منه أن ينتهي بتمكين اليمين واليمين المتطرف الفرنسي من أجل المرحلة اللاحقة؟

إن الإجابة عن هذه الأسئلة تقود إلى مجموعة من الملاحظات الداخلية والخارجية التي لا يمكن اغفالها:

• على الصعيد الداخلي: دخلت فرنسا في مرحلة العجز المقلق في موازنتها مع تجاوز الدين العام "3 تريليون يورو" وهو ما شكل نسبة "112% من الناتج المحلي"، في الوقت الذي بات فيه المهاجرون واللاجئون يشكلون ما نسبته 10% من مجموع السكان، ما يعني عبئًا إضافيًا على الموازنة. ومن جانب آخر فإن اليمين المتطرف يتقدم على الأرض وفي الحياة السياسية وهو المعروف بمواقف معادية وعنصرية ضد المهاجرين والأقليات دلّت على ذلك مؤشرات عديدة خلال الاحتجاجات حيث تبين مشاركة "جماعات مناهضة الشغب" في قمع الاحتجاجات، هذه الجماعات ثبت أن لديها ميليشيات مدرّبة تضمّ عناصر متقاعدين من القوات الفرنسية والبحرية الفرنسية، وكان واضحًا خلال الاحتجاجات ظهور عناصر ملثمة تبين لاحقًا أنها تنتمي لتلك الجماعات وقامت بالاعتداء على المحتجين والمتظاهرين بطرق وحشية، وعليه فإنه بات من الواضح أن السلطات الفرنسية أو اليمين المتطرف أو كليهما معًا قد لجؤوا إلى أسالبيب البلطجة ضد المتظاهرين، ومن غير المستبعد أن تكون تلك الجماعات قد شاركت بعمليات التخريب والحرق التي وقعت بهدف تشويه حركة الاحتجاجات وتقديم المبررات لقمعها بطرق وحشية وفرض قانون الطوارئ.

• على الصعيد الخارجي: العوامل الضاغطة كثيرة، ليس أولها تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا، مرورا بحلف اوكوس في المحيط الهادئ "الأميركي البريطاني الأسترالي" والذي أبعدت فرنسا عنه عمدًا وتم إلغاء صفقة غواصات لها مع استراليا، فضلًا عن الحرب الأوكرانية وما نتج عنها من ضغط اقتصادي سواء في مجال الطاقة أو من خلال التكاليف الباهظة المفروضة، وتراجع نفوذ أوروبا عمومًا وتحولها إلى ساحة محتملة للمواجهة، وتمدد اليمين المتطرف في أوروبا تحت وقع الهجرة والحرب الأوكرانية وصولًا إلى انزياح مركز الثقل الأوروبي إلى شرق أوروبا على حساب الغرب التقليدي. إضافةً لكل ذلك كان من الملفت للنظر بل وكان مفاجئًا إعلان ماكرون رغبته في حضور قمة بريكس في آب/أغسطس المقبل في جنوب أفريقيا، وإرسال وزيرة الخارجية الفرنسية طلبًا لبريتوريا بهذا الخصوص، هذا الطلب قوبل برفض موسكو التي قالت على لسان "ريابكوف" إن "من الواضح أن رؤساء الدول الذين ينتهجون مثل هذه السياسة العدائية وغير المقبولة تجاهنا، والمصممين جدًا على عزل روسيا دوليًا والالتزام بخط الناتو في إلحاق هزيمة استراتيجية بنا، لا مكان لهم كضيوف".

إن كل تلك العوامل الداخلية والخارجية تشير إلى أن فرنسا باتت في أزمة حقيقية على الصعيد الداخلي والخارجي، وأنها تتحول شيئًا فشيئًا من لاعب تاريخي مهم على الساحة الدولية كقوة عظمى إلى ساحة نفوذ يجري العبث بها من الخارج وتحديدًا من قبل حلفائها الأمريكيين. لقد بات واضحًا أن الولايات المتحدة التي تعمل على تطويع أوروبا بالكامل واعادة هيكلتها سياسيًا وفقًا لهذا الهدف الذي كان واحدًا من الأهداف الأمريكية للحرب الأوكرانية، تسعى إلى تعويم اليمين المتطرف في اوروبا عمومًا كما هو الحال في أوكرانيا وإيطاليا واليوم فرنسا، أو إلى التلويح بالتحالف معه، وهي بذلك تعتقد أنها تستطيع تحقيق واحدة من غايتين أو كلتيهما، الأولى تتمثل بوضع الأوروبيين تحت حد الخوف من تعويم اليمين المتطرف، والثانية تنمية وتغذية التعصب العرقي لدى الأوروبيين ضد روسيا وغيرها.

وبالمحصلة والنتيجة فإن فرنسا "العظمى" قد فقدت الكثير من مكانتها التي ورثتها بعد الحرب العالمية الثانية، وإن هذا العالم الجديد المتشكل لا يحتمل الكثير من اللاعبين الأقوياء ولا بد من التضحية ببعضهم، وربما كانت فرنسا أولى الضحايا الكبار في النظام العالمي الجديد، ولعلّ كثرة أعمال الحرق التي شهدتها الاحتجاجات الأخيرة قدمت فرنسا كبلد من كرتون من السهل احتراقه أو احتراق مكانته.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات