آراء وتحليلات
تركيا بين سندان الولايات المتحدة ومطرقة الاتحاد الروسي وفشل سياسات المضاربة
حيّان نيّوف
لا يخفى على أيّ متابع للشأن التركي منذ ما قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة في أيار/ مايو المنصرم وحتى قمّة الناتو التي تعقد هذه الأيام في ليتوانيا حجم وأهمية ومحورية تركيا في السياسات والإستراتيجيات الإقليمية والدولية لكلّ من الولايات المتحدة بما تمثله وروسيا بما تمثله.
فبعد حسم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية لصالح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه العدالة والتنمية والتحالف السياسي الذي يدعمه، وهي نتيجة اتضح منذ ما قبل الانتخابات أنها كانت تتطابق مع رغبات موسكو وتتعاكس مع رغبات الولايات المتحدة التي كانت أكثر ميلاً للوقوف في صف منافسي اردوغان من المعارضة ومرشحها "كيليتجدار أوغلو"، بعد تلك النتائج اتجهت الأنظار إلى التغييرات التي سيجريها اردوغان في تشكيلة حكومته على اعتبار أن شكل الحكومة التركية سيعبر عن سياساته المستبقلية.
وسرعان ما أعلن اردوغان عن التشكيلة الحكومية التي تضمنت تعديلات رئيسية كان أهمها تكليف رئيس المخابرات السابق "حقان فيدان" بحقيبة الخارجية، وتكليف مستشار أردوغان الخاص "ابراهيم قالين" رئيسًا للمخابرات التركية، وبهذا التعيين يكون أردوغان قد وضع قدمًا ثابتة له في واشنطن وقدمًا متحركة له في موسكو، فلطالما شكل "ابراهيم قالين" مبعوثًا شخصيًا لأردوغان إلى واشنطن حتى أنه يمكن وصفه برجل الولايات المتحدة الأول في تركيا، وأما "حقان فيدان" فقد عرف منذ محاولة الانقلاب عام 2016 بمنسق العلاقة التركية الروسية.
غير أن تلك التعيينات على أهميتها لم تعد تجدي نفعًا للاستمرار بسياسات المضاربة والاستثمار التي انتهجها أردوغان طوال سنين من التنافس والصراع بين واشنطن وموسكو، وخاصة مع وصول الصراع بين القوتين العظميين إلى مراحل متقدمة بعد ما يقارب العام والنصف من المواجهة على الساحة الأوكرانية، فقد باتت تضيق المساحة الرمادية التي كانت تؤمن لأردوغان هامشًا واسعًا من المناورة والقدرة على المضاربة بالمواقف والاستثمار بالتشابكات والاشتباكات الإقليمية والدولية بين الشرق والغرب، وهو ما عبر عنه اردوغان مؤخرًا بقوله إن تركيا لن تكون غربية ولا شرقية.
وسرعان ما خضعت السياسات التركية مع انطلاقة الفترة الرئاسية الجديدة للرئيس التركي اردوغان وحكومته الجديدة إلى اختبارين، الأول متعلق بمواقفه من موسكو خصوصًا والشرق عمومًا وتمثّل بانعقاد مؤتمر آستانة الشهر الماضي في كازخستان، والثاني متعلق بمواقفه من الولايات المتحدة والناتو والغرب عمومًا وتمثل بانعقاد قمة الناتو اليوم في ليتوانيا.
في كلا الحدثين كان مطلوبًا من اردوغان أن يظهر مواقف واضحة حيث اتجهت الأنظار إلى طبيعة القرارات والمواقف التركية في كلا اللقائين، وفي الوقت الذي كانت موسكو تعوّل على مواقفه في آستانة فإن واشنطن كانت تراقب بحذر تلك المواقف، والأمر ذاته ينطبق على مواقفه في قمة الناتو في ليتوانيا التي تعول عليها واشنطن وتراقبها موسكو بحذر.
لا شكّ أن مخرجات آستانة التي عبر عنها البيان الختامي للمؤتمر الذي تضمن في بنوده ما هو مقبول ومناسب لموسكو سواء لجهة التأكيد على وحدة سورية وسيادتها ورفض أية محاولات للتقسيم وأشكال الحكم الذاتي فيها وإدانة للاعتداءات الإسرائيلية ورفضًا لسرقة النفط السوري ودعمًا للحل السياسي والأهم كان التأكيد على السير بوضع خطة بإشراف نواب وزراء الخارجية ورؤساء المخابرات لإعادة العلاقات السورية/التركية، لا شك أن تلك المخرجات كانت محط رضا وقبول موسكو، في ذات الوقت كانت محط امتعاض واشنطن التي ألقت بثقلها في المنطقة ومارست ضغوطًا عبر وكلائها وأدواتها وحلفائها لإفشال وعرقلة مخرجات آستانة، وهو ما ظهر وبرز من خلال التحركات الميدانية للولايات المتحدة أو من خلال المواقف السياسية. تلك التحركات الأمريكية المضادة ظهرت نتائجها من خلال التحشيد العسكري لميليشيا قسد في شرق الفرات بدعم من واشنطن، وسياسيًا من خلال إبطاء الاندفاعة العربية باتجاه دمشق والتي على ما يبدو تأثرت بضغوط واشنطن.
بالمقابل فإن قمة الناتو في ليتوانيا وما سبقها من مواقف وضغوطات أمريكية على أنقرة تمكنت من انتزاع ما تريده الولايات المتحدة من تركيا بهذا الخصوص، فقد شهدنا قبل أيام من انعقاد القمة ضغطًا أميركيًا على تركيا نتج عنه موافقتها الأولية على انضمام السويد للناتو، وسبق ذلك اطلاق مواقف لأردوغان أعلن من خلالها تأييده أيضًا لانضمام أوكرانيا للناتو، وسماحه بمغادرة قادة منظمة "آزوف" المتطرفة والمعادية لروسيا للأراضي التركية وعودتهم إلى كيبف في خطوة اعتبرت نقضًا لاتفاق مسبق مع موسكو، وكل ذلك بفعل ضغوط الولايات المتحدة التي أرغمت اردوغان على ذلك وهو الذي أسقط كل شروطه السابقة التي كان قد وضعها مقابل تلك المواقف التي أغضبت موسكو والتي عبرت عن رفضها لها، ويمكن القول إن جلّ ما حصل عليه اردوغان من واشنطن مقابل تلك المواقف تمثّل ببعض الوعود الكلامية المتعلقة بصفقة طائرات "إف ١٦"، بالإضافة إلى مغريات بتحسين علاقات تركيا مع الدول العربية وخاصة مصر ودول الخليج التي يستعد أردوغان لزيارتها..
الردّ الروسي على مواقف الناتو ومواقف تركيا لم يتأخر، فبعد التمسك الروسي بالرفض المبدئي لتمديد اتفاقية الحبوب عبر البحر الأسود، جاء إعلان موسكو عن اتهامها لتركيا بنقض الاتفاق المتعلق بقادة منظمة آزوف، ولعل الرد الروسي الأكثر أهمية تمثل بكشف الكريملن عن لقاء عقد بين الرئيس الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" وقادة مجموعة فاغنر الأمنية الخاصة بما فيهم "بريجوجين"، إعلان الكريملن ركّز على سرّية ما جرى في اللقاء لكنه أفرج عن: "تأكيد قادة فاغنر أنهم من أشد المؤيدين لرئيس الدولة والقائد الأعلى للقوات المسلحة. كما قالوا إنهم على استعداد كامل لمواصلة القتال من أجل الوطن الأم".
رسالة الكريملن وصلت إلى ليتوانيا قبل انعقاد قمة الناتو، ووصلت إلى دول البلطيق وأردوغان، ومفادها أن فاغنر التي باتت تشكل قوة مخيفة ما زالت رهن إشارة الرئيس بوتين، والأولى أن يخشى من وصلتهم الرسالة من قدرة فاغنر على التأثير في الساحات التي يريدها بوتين سواء الساحات المشتعلة أو الساحات القابلة للإشتعال، وربما أراد الكريملن القول إن الفضاء التركي هو واحد من تلك الساحات المحتملة.
أخيراً، يمكن القول إن سياسات أردوغان القديمة القائمة على اللعب على الحبال، والمضاربة والاستثمار في المواقف لم تعد صالحة للمرحلة القادمة، وأن أنصاف المواقف وأرباعها لم تعد مقبولة، سواء من قبل واشنطن أو من قبل موسكو، وأن تجربة الشهرين الأولين من فترة اردوغان الرئاسية الجديدة أثبتت ذلك، فهل بإمكان أردوغان تغيير هذا النهج؟ وهل باستطاعته تحمل نتائج هذا التغيير إن اتخذ قرارًا بذلك؟
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024