آراء وتحليلات
آسيان تخيب آمال بلينكن في الملف الصيني: لسنا وكلاء لأحد
د. علي دربج - باحث وأستاذ جامعي.
لم تكن زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بليكين الى إندونيسيا في 14 الجاري واجتماعه مع نظرائه في جنوب شرق آسيا على قدر آمال وتطلعات البيت الأبيض الهادفة الى إنشاء حلف أو تكتل جديد بمواجهة الصين. فرئيس الدبلوماسية الأمريكية خرج خالي الوفاض وفشل في استمالة دول المنطقة وجرّها إلى جانب امريكا، بالرغم من تحريضه وتحذيره من سياسات بكين الاكراهية التي تنتهجها في منطقة بحر الصين الجنوبي، والاستشهاد بما تتعرض له تايوان.
ما تجدر معرفته هنا أنه قبيل محطته الأخيرة في جولته العالمية في جاكرتا، كان بلينكن اختتم أسبوعًا حافلًا وعصيبًا بدأ في لندن مع الرئيس بايدن، ثم انتقل إلى العاصمة الليتوانية فيلنيوس (التي سمع فيها كلاما مهينا من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وصف فيه اعلان الناتو بشأن عضوية بلاده في الحلف بأنه سخيف وغير مسبوق) حيث عزز قادة الاطلسي دفاعاتهم ضد روسيا، ووافقوا على شحن المزيد من الأسلحة لتسعير الصراع في أوكرانيا، ووضع استراتيجية حول كيفية التعامل مع الصين باعتبارها تحديًا استراتيجيًا عالميًا.
وكان سبق ذلك لقاء بلينكن أيضًا في 13 الجاري لأكثر من 90 دقيقة بكبير الدبلوماسيين الصينيين وانغ يي، قبل أن يجمعه لقاء مشترك يوم الجمعة الماضي، مع كل من الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو، ووزراء الخارجية الإقليميين، ووزيري خارجية اليابان وكوريا الجنوبية بشكل مشترك.
أما تركيز تلك المحادثة الأخيرة، فقد انصب على الاختبار الصاروخي الذي أجرته كوريا الشمالية والسلوكيات الأخيرة لبيونغ يانغ، ليصرح على اثرها بلينكن قائلا: "لا يوجد تحد أكبر للأمن المشترك للولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية من الاستفزازات المستمرة القادمة من كوريا الشمالية".
ما الهدف من زيارة بلينكن إلى منطقة آسيان؟
في الواقع تعمل إدارة بايدن على إعادة بناء العلاقات مع دول منطقة جنوب شرق آسيا -كانت تعرضت للاهمال إلى حد ما من قبل الرئيس دونالد ترامب - التي تشهد تنافسا حادا بين الاقطاب الدوليين الكبار، نظرا لاهميتها القصوى لكل من بكين وواشنطن خصوصا وان هذه المجموعة الإقليمية المؤلفة من 10 دول ككتلة سريعة النمو، تواجه ازديادا سكانيًا سريعًا.
وانطلاقا من هذه النقطة، جهد بلينكن لتشجيع بلدان المنطقة على الوقوف إلى جانب الانفتاح (ويقصد هنا أمريكا)، غير انه جوبه بتعهدات من القادة الإندونيسيين وغيرهم بأن منطقتهم لن تنحاز إلى المنافسة المحتدمة بين واشنطن وبكين، لا سيما وأن الصين وروسيا كانت أرسلتا كبار دبلوماسييها الى المنطقة لمواجهة النفوذ الأمريكي هناك.
أما الأكثر أهمية في رحلة بلينكن - الثانية عشرة له إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ والرابعة إلى إندونيسيا – فهو انها شكلت مقياسا لجهود إدارة بايدن الموسعة لجذب الدول بعيدا عن الاصطفاف العلني مع بكين في ظل الحملة الدبلوماسية التي تقوم بها الصين للترويج لسياساتها ونموذجها الاقتصادي في أجزاء من العالم كانت واشنطن فرطت بها في بعض الأحيان.
علاوة على ذلك، عدت هذه الزيارة بمثابة غزوة في عالم يشهد تحديات إقليمية شديدة (وفقا للتوصيف الامريكي) لا سيما من كوريا الشمالية، التي اختبرت صاروخًا باليستيًا عابرًا للقارات في هذا الشهر، وميانمار التي لا تزال تعاني بحسب واشنطن من حكم "ديكتاتوريتها العسكرية القمعية".
ولهذه الغاية، تحاول الولايات المتحدة من جديد، اجتذاب تلك البلدان التي تقاوم وبقوة الانجراف الى أي المعسكرين الأمريكي أو الصيني. وتعليقًا على ذلك، قال أليكس بريستو، الخبير في السياسة الأمنية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ في معهد السياسة الإستراتيجية الأسترالي، إن الولايات المتحدة بحاجة إلى مراقبة لهجتها لكي لا تبدو وكأنها تحاول احتواء الصين، بعدما انعكس هذا الشعور من قبل صانعي السياسات في اجتماعاتهم باندونيسيا.
هل تجاوبت دول المنطقة مع محاولات بلينكن جرّها الى المعسكر الامريكي؟
في الواقع كان وزراء خارجية رابطة دول جنوب شرق آسيا أو الآسيان حذرين بشأن توسلات بلينكن بالانفتاح على الولايات المتحدة، لكنهم لم يقدموا أي التزامات بإدارة ظهورهم لخصوم واشنطن، لكن ذلك، لا ينفي أن الكثير من هذه بالبلدان يشعر بالإحباط بسبب مطالبات الصين التوسعية بشأن بحر الصين الجنوبي، وقد عارضوا جهودها للقيام بذلك.
وتعقيبًا على ذلك، قالت وزيرة الخارجية السنغافورية فيفيان بالاكريشنان للصحفيين قبل الاجتماعات مع بلينكن في 14 الجاري "نحن لا نختار جانبًا، ولا نريد أن نكون وكلاء ولا نريد أن نكون دولًا تابعة ولا نريد أن نقسم" واضافت "نحن نحاول تجنب الأيام الخوالي السيئة للحرب الباردة، عندما كان جنوب شرق آسيا مقسمًا أو أسوأ من ذلك ساحة حروب بالوكالة".
وفي السياق ذاته، خاطبت وزيرة الخارجية الإندونيسية ريتنو مارسودي وزراء الخارجية الذين كانوا اجتمعوا في جاكرتا (وفقا لتصريحات نشرت على موقعها على الإنترنت): "إن منطقة المحيطين الهندي والهادئ ليست ساحة معركة.. يجب أن تظل هذه المنطقة مستقرة"، اشارة الى أنه بالرغم من تفضيل دول منطقة آسيا الوقوف على الحياد بين بكين وواشنطن وعدم الركون لأي طرف، غير أنها تواجه العديد من المشاكل وأبرزها الحكومة العسكرية في ميانمار التي تم حرمانها من العضوية في الآسيان، إضافة الى معضلة كوريا الشمالية.
في المحصلة، لن تكون دول منطقة آسيان - التي تحاذر وتحرص على عدم الدخول في أحلاف أو تكتلات دولية - بمنأى عن الانعكاسات السلبية للمواجهة المستمرة بين بكين وواشنطن اللتين تضعان بشكل متزايد حواجز تجارية ضد بعضهما البعض، وهذا يؤثر بدوره على الشركاء الاقتصاديين الآخرين أيضًا. من هنا، يتعين على هذه الدول الوسطى معرفة كيفية التنقل بسلام في هذا الفضاء المحموم بالتنافس الحاد.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024