آراء وتحليلات
لا جائزة لأوكرانيا قبل تحقيق النصر
عبير بسّام
كان على هامش قمة الناتو الأخيرة في عاصمة ليتوانيا، فيلنيوس الأسبوع الماضي، لقاء للرئيس الأميركي جو بايدن على قناة CNN سأله المذيع خلاله عن أن أهم نقاش استراتيجي حصل خلال المؤتمر، وهو حول ما اذا كان سيتم اعلان انضمام أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي، أجاب بايدن: "لا أظن أن أوكرانيا جاهزة بعد للانضمام للحلف".
أعطى بايدن خلال المقابلة التبريرات التي لديه، مردداً أنه يحاول جاهداً من أجل الحفاظ على تماسك الناتو، وأن هذا الأمر ضروري جداً بالنسبة للولايات المتحدة.
وعبر بايدن عن مخاوفه بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يريد تفكيك الناتو. وكشف خلال اللقاء التلفزيوني، أن لقاء جنيف الذي جمعه قبل سنتين مع الرئيس بوتين، طالب خلاله بوتين بضمانات بعدم ضم أوكرانيا إلى الحلف، ولكنه رفض وقال إن سياسة الحلف هي "سياسة الباب المفتوح". لكن في الوقت نفسه، أكد بايدن لـ CNN أنه لا يمكن دعوة أوكرانيا للانضمام إلى الحلف إلا بعد انتصارها في الحرب على روسيا، لأن الحلف سيلتزم حينئذ بالإنضمام للحرب إلى جانب أوكرانيا ضد روسيا، وهذا معناه وضع 150 ألف جندي من جنود الناتو في أتون المعركة. كلام قاله بايدن مبرراً من خلاله قرار دعم أوكرانيا بالمزيد من المساعدات ومن الأسلحة الجديدة ومن أخطرها القنابل العنقودية.
بالتأكيد هذا العدد من جنود الناتو لن يكون كافياً من أجل ربح المعركة ضد روسيا، ويبدو أنه من الأفضل في المرحلة الحالية الإستمرار باستنزاف كل من روسيا وأوكرانيا وحتى أوروبا. ولذلك فإن الضمانات التي حددها بايدن خلال اللقاء المتلفز تبدو "أمريكية" بشكل استثنائي، فبداية يوضح بايدن أن عملية الانضمام إلى الناتو هي عملية مستمرة وتستغرق بعض الوقت، وتحتاج التاكد من استيفاء المؤهلات التي يجب ان تتمتع بها اوكرانيا وأهمها "التحول الديمقراطي وبعض القضايا المماثلة". قضايا لم يحددها بايدن ولم يطلب المذيع حتى تسميتها. وشدد بايدن على مسألة الأمن، وأن المطلوب من أوكرانيا أن يكون هناك اتفاق لوقف إطلاق النار واتفاق سلام مع روسيا، ولذلك كان من السابق لأوانه الدعوة للتصويت لدخول أوكرانيا إلى الحلف، وطلب ترتيبات موثوقة للعمل بها من أجل أمن أوكرانيا حتى لا يكرر التاريخ نفسه. وظهر من الكلام وكأن أوكرانيا هي من قرر الذهاب نحو تصعيد المواجهة مع موسكو.
والملفت أن بايدن بكلامه عن توفير الأمن شبّه الوضع في أوكرانيا بوضع الأمن في الكيان الصهيوني المزروع في قلب الوطن العربي، وقال في هذا الشأن "سنوفر كل الأمن لأوكرانيا كما وفرنا الأمن لـ"إسرائيل"، عبر توفير السلاح والحاجات المطلوبة للدفاع عن أنفسهم في ظل اتفاق لوقف النار واتفاق سلام". أقل ما يمكن وصف كلام بايدن به، بأنه غير صحيح، فأمريكا لم توفر الأمن لأحد ولا تستطيع فرضه بسلاحها، وبواسطة قنابلها العنقودية التي أثارت موجة صخب في الكونغرس الأميركي بين الديمقراطيين وبعض الجمهوريين ووجهت انتقادات للبنتاغون لإرسالها، ووصفها بأنها خطأ رهيب وتجاوز للعتبة الأخلاقية وبخاصة أن عددًا كبيرًا من دول الاتحاد الأوروبي تحظر استخدامها، وحتى المنظمات الحقوقية الأميركية اعتبرت المسألة تدنّيًا في أخلاقيات البيت الأبيض.
على المقلب الأوكراني، فإن صورة فلوديمير زيلنسكي التي اجتاحت وسائل الإعلام، وهو يتجول وحيداً وبدا فيها صغيراً كصبي حرب بين الكبار وبلباسه الكاكي المعتاد تعكس الوضع الحقيقي لأوكرانيا، وتوضح أن الأميركي والبريطاني قد قدما بلاده على مذبح "حرب عبثية"، وهو تعبير حاول زيلنسكي نفيه خلال المؤتمر الصحفي بعد انتهاء مؤتمر فيلنيوس.
زيلنسكي، تفهم عدم قدرة أوروبا والديمقراطية الغربية في المرحلة الحالية دعوة أوكرانيا للانضمام للحلف في خضم الحرب، بعد أن تم بنجاح قبول عضويتي السويد وفنلندا خلال المؤتمر، لأن أعضاء الناتو حينئذ سيصبحون ملزمين بالدخول في الحرب إلى جانبها، ولذا فهو "يتفهم أن ما من طرف يرغب بشن حرب عالمية أخرى"، وقد قال ذلك صراحة في المؤتمر الصحفي المشترك. في هذا الشأن، قال الأمين العام للناتو ينس ستولتنبرغ إن هناك حربًا في أوروبا ومع أن لحلفائنا الخيار في حق تقرير المصير الخاص بهم والترتيبات التي ترغب بها، ولكن لا يمكن اليوم ضم أوكرانيا للناتو. وما يزعج أوروبا فعلياً هو ما كرره بايدن في المقابلة وما أعاده ستولتنبرغ في المؤتمر الصحفي: "... ولا نسمح لموسكو تقرير من سيدخل أو لا يدخل في الناتو. والخيار ليس لموسكو. وليس هناك ضمانات أمنية [لأوكرانيا]، ولكن هناك ضمان دعم عسكري وعقوبات على روسيا". أي أن أوروبا وأميركا تشعران بالعجز أمام الروس حتى حين عارضت دخول أوكرانيا من دخول حلف الأطلسي.
أما بالنسبة للدعم العسكري والعقوبات على روسيا، فإن أطراف الناتو يشعرون بعجز آخر أمامه، فروسيا لم تتأثر اقتصادياً كما تأثر الغرب. أما عسكريًا، فقد دُمرت دبابات ليوبارد الألمانية العظيمة، وخسرت قيمتها في السوق العالمية. كما حيدت روسيا صواريخ "هيمارس" التكتيكية المدمرة عبر إبعاد مخازن أسلحتها 70 كم إلى الخلف. ولعدة مرات منذ وصولها قامت روسيا بتدمير صواريخ "ستورم شادو"، أي "ظل العاصفة" بعيدة المدى قبل أن تصل إلى أهدافها. لقد أهانت روسيا منظومة الصواريخ البريطانية والمسيرات التي أرسلت لقصف موسكو. وهذا أمر آخر يشعر الأوروبيون والأميركيون بالعجز أمامه، اذ اختبرت منظوماتهم الدفاعية وفشلت أمام السلاح الروسي. ولكن ما جعل زيلنسكي يبتلغ خيبته ولسانه خلال مؤتمر فيلنيوس حقيقة، هو إعلان البريطانيين دعمه بصواريخ "كروز" بعيدة المدى وصواريخ "أتاكمز" الباليستية التكتيكية (أرض - أرض) مع صمت واشنطن حيال الأمر، فقد أدخلت، أخيراً، الصواريخ الأميركية في التجربة، صواريخ بعيدة المدى يمكن إطلاقها من مسافات بعيدة من أوكرانيا لتصل الأراضي الروسية، وهذا يعني أن الولايات المتحدة قد تجاوزت الخطوط الحمراء، التي كانت قد وضعتها حول استهداف العمق الروسي من داخل أوكرانيا. هذا إضافة إلى ما قرره المؤتمر من تزويد أوكرانيا بمضادات وقذائف تحمل اليورانيوم المنضب والقنابل العنقودية الأميركية.
وهذا ما يجعلنا نسأل وخارج سياق السعي الأميركي لهزيمة روسيا: هل تختبر أميركا السلاح الغربي في حربها مع روسيا على حساب الأرواح الأوكرانية، أم أن أميركا تسعى نحو تجريد أوروبا من قوتها العسكرية، أم أن أميركا تجد أن روسيا وأوكرانيا المكان الأفضل للتخلص من مخزونها الفاسد من القنابل العنقودية وغيرها من القنابل المخزنة، التي سقطت ولم تنفجر كما حدث في لبنان، أم أنها تجر العالم نحو حرب عالمية ثالثة على غرار الحرب العالمية الثانية؟ فخطاب بايدن، خطاب متملص من المسؤوليات ويتجنب المواجهة المباشرة، وزيلنسكي ينجر أمام طلبات الولايات المتحدة كعجل يساق إلى المسلخ.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
19/11/2024