آراء وتحليلات
وقف العمل باتفاقية الحبوب.. مدخل لإنهاء الحرب في أوكرانيا؟
شارل ابي نادر
أعلنت وزارة الدفاع الروسية أنّه "بدءًا من منتصف ليل 20 تموز/يوليو، سيتم التعامل مع جميع السفن المبحرة في البحر الأسود إلى الموانئ الأوكرانية على أنّها تنقل معدات عسكريّة لقوات كييف"، وذلك بعد أن أوقفت العمل باتفاقية تصدير الحبوب بسبب عدم التزام الغرب بالجزء المتعلّق به، مع الاعلان أن بعض المناطق في الأجزاء الشمالية الغربية والجنوبية الشرقية من المياه الدولية للبحر الأسود أصبحت خطيرة للملاحة حاليًا، وبالتالي سحبت ضمانات سلامة الإبحار في تلك المنطقة لتتوقف بذلك عمليًا اتفاقية الحبوب التي أبرمت بين روسيا وأوكرانيا والأمم المتحدة في 22 تموز/يوليو 2022 بمبادرة من أنقرة، وتنصّ على سماح روسيا بتصدير الحبوب الأوكرانية عبر ممر فتحه الأسطول الروسي في البحر الأسود، شريطة إتاحة وصول الحبوب والأسمدة الروسية إلى الأسواق الدولية. إلاّ أنّ العقوبات الغربية وقفت حجر عثرة على طريق تطبيق الاتفاق، حيث لم تنفذ الدول الغربية تعهداتها بعدم تقييد حركة الصادرات الروسية من الأسمدة والحبوب والزيوت والغذاء، فيما تعاقب شركات التأمين وخدمات السفن التي تتعامل مع روسيا.
صحيح أن موضوع الاتفاقية يتناول حماية الأمن الغذائي العالمي بشكل أو بآخر، وهو أمر يطال جغرافية واسعة من الدول وتحديدًا الفقيرة منها، وصحيح ان تركيا وبمجهود شخصي لافت من رئيسها رجب طيب اردوغان رعت هذه الاتفاقية وكانت الضامن التجاري والأمني لها، لكن في الواقع كان غريبًا إلى حد ما أن يتم الاتفاق على صفقة الحبوب هذه بين كل من روسيا وأوكرانيا والأمم المتحدة، وهي الأطراف الأساسية التي تتقاتل في الحرب الحالية: روسيا من جهة وأوكرانيا والدول المهيمنة على منظمة الأمم المتحدة لأي دول الغرب الأطلسي من جهة أخرى. واللافت والمثير للاستغراب أيضًا أن تكون بقعة تنفيذ هذه الاتفاقية هي سواحل أوكرانيا جنوب الغربية وتحديدًا مدينة اوديسا، وامتدادًا الى جنوب البحر الأسود فمضيق البوسفور وتركيا فالبحر المتوسط، والتي تعتبر اليوم البقعة الأكثر اشتعالًا وحساسية من الناحية العسكرية من بين مناطق الاشتباك الأخرى في أوكرانيا.
من هنا، وحيث كانت صفقة الحبوب تشكل عمليًا الرابط الرئيسي وربما الوحيد للنزاع بين روسيا والغرب الأطلسي، وذلك بعد أن أُقفِلت وبشكل تدريجي أغلب عناصر الارتباط بين الطرفين وخاصة الاقتصادية والأمنية منها، هل تكون هذه الأزمة اليوم القاضي النهائي على خطوط التواصل الروسية - الاطلسية، وبالتالي يُفتح الباب واسعًا على كل احتمالات المواجهة والتي بدأت تقترب وبسرعة من أن تكون مباشرة؟ أم تكون هذه الأزمة ذات الطابع الغذائي العالمي مدخلًا لإنهاء الحرب في أوكرانيا، انطلاقًا من حاجة المجتمع الدولي وخاصة الغربي للإبقاء على هذا التواصل الضروري بقوة لحماية هذا الأمن الغذائي العالمي؟ وما هي العناصر التي يمكن أن تؤثر فعليًا على استمرار الحرب أو وقفها وسلوك تسوية مقبولة من كل الأطراف؟
بداية، من الضروري الإضاءة على العناصر الرئيسية التي تؤثر عمليًا في تحديد مسار هذه المواجهة العالمية والتي هي:
لناحية الميدان
لا شك ان الحرب في اوكرانيا، ورغم استمرار الحراك الهجومي المتبادل من الطرفين، لا يبدو أنها تسير نحو الحسم الكامل لطرف معيّن ميدانيًا وعسكريًا، وحيث استطاع الروس استيعاب الهجوم الأوكراني الأخير والذي دفع به الغرب الأطلسي بقوة، عبر دعم مفتوح وواسع كمًّا ونوعًا للوحدات الأوكرانية، وصحيح أن الروس يملكون حاليًا أكثر من نقطة تفوق هجومية، جغرافيًا وعسكريًا، ولكن، أصبح واضحًا أن ستاتيكو الجمود بدأ يفرض نفسه، أقلَّه لعام من الآن، حيث من المستحيل لأي فريق إحداث أي تغيير ميداني واسع قبل بداية الشتاء، وحيث حينها ستفرض الظروف المناخية نفسها، لتتوقف القدرة السهلة للوحدات على التحرك وخاصة في البر، لتَضعف حُكمًا امكانية أي طرف في إحراز تقدم ذي قيمة عسكرية وميدانية.
لناحية الدعم العسكري الغربي لكييف
أصبح أيضًا وأضحًا أن حزمات الدعم الغربي المتواصلة والمتصاعدة لكييف لن تستطع فرض أي تعديل أو تغيير في ميزان القوى وفي الميدان ضد روسيا، ولجوء الأميركيين وبكل وقاحة وغطرسة، إلى إمداد كييف بقنابل محرمة دوليا (عنقودية) وتبرير خطوتهم هذه علنًا بحاجة الميدان والوحدات الاوكرانية لهذه القنابل، بعد تدنِي فعالية الأسلحة الأخرى، هو دليل قاطع على الافلاس الاطلسي في استراتيجية الدعم، وعلى ما يشبه الاستسلام الغربي في هذا المجال، رغم استمرار تنفيذ هذا الدعم دون توقف، حيث توقيفه أو حتى الإعلان عن امكانية توقيفه سيكون عنصرًا جد مؤثر لمصلحة موسكو عسكريًا وسياسيًا.
لناحية الاقتصاد
يبدو أن روسيا أيضًا، استوعبت الحرب الاقتصادية التي شنها الغرب الأطلسي عليها بكامل عناصرها من عقوبات وتقييدات تجارية ومالية، لا بل استطاعت (روسيا) ومن خلال ثباتها النقدي والاقتصادي وتعاونها الذكي مع عدة أطراف مؤثرة عالميًا، وخاصة الصين وايران وأغلب دول منظمة شنغهاي، فرض ضغط كبير على الدولار وبالتالي تحقيق ضغط ناجح على الاقتصاد الغربي، تداعياته السلبية عمليًا بدأت تفرض نفسها على الشعوب والحكومات الغربية وبشكل متصاعد، لا يبدو أنه سيكون هناك قدرة لهذه الحكومات على وقفها (للتداعيات) أو التعامل معها.
لناحية مشكلة وقف روسيا العمل باتفاقية تصدير الحبوب
هذه المشكلة ترتبط عمليًا بشكل مباشر بالأزمة الاقتصادية الضاغطة على الغرب الأطلسي، ومن الواضح أن هذا الملف سيشكل نقطة خلاف عالي المستوى، حيث سيعمل الغرب على التسلح به لاستهداف روسيا سياسيًا وإعلاميًا وديبلوماسيًا، من خلال اتهامها بتسبيب مشكلة كبيرة على الأمن الغذائي العالمي، واعتبارها متورطة عن قصد في جريمة هلاك عدد كبير من الشعوب الفقيرة بسبب نقص الغذاء الذي كانت تؤمنه اتفاقية الحبوب، في الوقت الذي تشير فيه أغلب المعطيات المؤكدة الى أن نسبة كبيرة من كميات تلك الحبوب التي كانت تصدرها أوكرانيا عبر الاتفاقية المذكورة كانت تذهب للدول الغنية الغربية، أولًا لتعويض الضغوط الاقتصادية على مجتمعاتها والتي سببتها التمويلات الضخمة لدعم كييف ماليًا وتجهيزيًا ولوجستيًا، وثانيًا، لاستغلال مشكلة النقص في هذه الحبوب لدى الدول الفقيرة كورقة ضغط عالمية على روسيا بأن حربها على أوكرانيا هي سبب هذه المشكلة الغذائية عالميًا.
انطلاقًا من كل ما ذكر أعلاه، تثبّت تقريبًا الفشل الاوكراني - الاطلسي في الميدان وتؤكّد بنسبة كبيرة عجز الدعم الغربي عن تحقيق أي تغيير في المواجهة ضد الروس، وصمدت موسكو لا بل ربحت وبامتياز في الحرب الاقتصادية التي شنها الغرب الأطلسي عليها وأُقفِلت أية امكانية غربية لتعديل موازين المواجهة ضد الروس.. بالتالي، لم يعد بعد ذلك من مخرج أمام الناتو والأميركيين تحديدًا إلا العمل على إعادة ربط النزاع مع روسيا عبر إعادة إحياء اتفاقية تصدير الحبوب التي برهنت عمليًا كل المواجهات البحرية والبرية الأخيرة التي حصلت جنوب اوكرانيا وعلى كامل مياه وأجواء القرم واوديسا وشمال البحر الأسود انه لا يمكن بل من المستحيل تنفيذ هذه الصفقة بهدوء، وتصدير هذه الحبوب بحرًا من الجنوب الأوكراني في ظل ما يحصل من اشتباكات بحرية وجوية عنيفة في تلك المنطقة.
من هنا أصبح واردًا وبقوّة أن ننتظر بدء تسوية معينة بين هذه الأطراف المتصارعة، يكون غطاؤها إعادة العمل بصفقة الحبوب التي ستكون بالنسبة للغرب (إعلاميًا) مبررًا حيويًا لوقف الأعمال العسكرية في جنوب أوكرانيا، وحيث تشكل هذه المنطقة اليوم النقطة الأكثر سخونة في المواجهة، والنقطة الوحيدة التي تؤثر فيها الوحدات الأوكرانية هجوميًا في المعركة من خلال رفع مستوى ضغوطها على شبه جزيرة القرم، لتكون هذه التسوية (الغذائية) مدخلًا أوسع لتسوية أبعد، تكون مخرجًا للجميع وخاصة للغرب لوقف الحرب والتفاوض مع الروس، الذين لن يخرجوا منها إلا بتحقيق نسبة معينة مقبولة من الأهداف التي وضعوها لعمليتهم الخاصة في أوكرانيا.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024