آراء وتحليلات
من ينفخ على الجمر أولاً؟
بقلم د. حسن أحمد حسن(*)
لم تعد المرتبة الأولى في سلم الأولويات الخاصة بالتساؤلات المطروحة تتعلق بتصعيد محتمل تهندس واشنطن طريقة إخراجه لإشعال النار في منطقة الجزيرة السورية، بل السؤال الأهم اليوم: متى يُقْدَحُ الزناد لإشعال النار؟ وكيف؟ وإلى أين يمكن أن تمتد ألسنة اللهب؟
من المسلم به إمكانية اشتعال الجمر المتَّقد تحت الرماد بفعل العدوانية الأمريكية المتسابقة مع نفسها في بلوغ ذرى جديدة لتعويض ما أمكن من هيبة متآكلة وقابلة للأفول في هذه المنطقة الجيوستراتيجية القابلة للاشتعال في أكثر من بؤرة من بؤر الصراع المزمن ومضبوط الإيقاع بفعل عوامل متعددة، وجميع معطيات الواقع تشير إلى حرص مفاصل صنع القرار في الإدارات الأمريكية المتعاقبة على إبقاء المنطقة متوترة، والأوضاع فيها قابلة للانفجار في أية لحظة، مع الاحتفاظ بقدرة عالية على التدخل في اللحظة الحرجة، وعدم السماح للأمور بالاقتراب أكثر من حافة الهاوية، لكن ماذا لو خرجت الأمور عن السيطرة لأكثر من سبب؟.
هل تستطيع واشنطن إشعال الفتيل؟
معطيات الواقع القائم تشير إلى ارتفاع نسبة التصعيد الميداني والسياسي والدبلوماسي والاقتصادي، ولا تظهر في الأفق أية بوادر لتخفيف الاحتقان، وهذا يرجح الذهاب نحو الاشتباك الميداني المباشر، وعلى ضوء نتائجه تكون بوصلة الأحداث القادمة، ويمكن للاشتباك القادم أن يتجلى بمظهرين متكاملين:
1ــ صدام مباشر بين وحدات من الجيش العربي السوري وحلفائه، وبين التنظيمات الانفصالية "قسد" وغيرها من المجموعات الإرهابية المسلحة المنضوية تحت العباءة الأمريكية بمختلف مسمياتها القديمة منها والمستحدثة، وإمكانية الوصول إلى تلك الحالة قائمة في أية لحظة عاجلاً أم آجلاً، ومصطلح الآجل لم يعد ـ كما كان متعارفا عليه ـ يحسب بالسنوات والعقود، بل بالأيام والأسابيع، وفي أفضل الحالات بالأشهر القليلة.
2ــ اشتباك غير مباشر مع قوات التحالف الذي تقوده أمريكا بعد الاستعصاء المزمن في إيجاد مخارج ترضي جميع الأطراف المنخرطة في الصراع على الجغرافيا السورية، فضلاً عن أن تطور منحنيات الصدام في المستوى الأول قد تؤدي إلى اشتباك مباشر مع الأصيل "الأمريكي" بعد أن يثبت عجز الوكلاء والأتباع، وأصحاب الأدوار الوظيفية عن إنجاز المهمة المطلوبة، لكن ذلك يبقى ـ إن حدث ـ مضبوط الإيقاع.
لا أحد ينكر أن الولايات المتحدة الأمريكية ما تزال حتى الوقت الراهن القوة العسكرية والاقتصادية الأعظم على مستوى العالم، ولا أحد يستطيع أن يغمض عينيه عن قدرتها الفائقة على القتل والإجرام وحتى الإبادة عندما يتطلب الأمر وفق ما يراه المنظرون الإستراتيجيون الأنكلوساكسونيون الذين أنيطت بهم مهمة رسم معالم السياسة العامة للقوة التي ما تزال تتحكم بالكثير من مفاصل صنع القرار الدولي حتى تاريخه، وهنا يمكن التوقف عند عدة عناوين مهمة قد تساعد على فهم اللوحة المتشابكة، ومنها:
• ضرورة التمييز بين عوامل القوة الشاملة التي يمتلكها هذا الطرف أو ذاك، وبين القدرة التي تعني تحويل تلك العوامل إلى أفعال لها مرتسمات على أرض الواقع، وهذا مرهون بامتلاك القدرة على تحمل التكلفة، فالأهم في مثل هذا النوع من الاشتباكات المركبة لا يرتبط بما يستطيعه هذا الطرف أو ذاك من إلحاق الأذى والضرر والدمار والخسائر المتنوعة بالعدو، بل بما يستطيع تحمله من تكلفة ودمار وخسائر، وبخاصة البشرية منها، ولا أظن متابعاً مهتماً يجهل تدني قدرة واشنطن على تحمل الخسائر بأنواعها المختلفة، ولاسيما الخسائر بالعنصر البشري، ولتبسيط هذه الفكرة أسوق مثالا واضحاً تعيشه المنطقة، وهو الخيمة التي أقامها حزب الله في الجنوب اللبناني، وأرغم نتنياهو بعد موجة عالية من التصعيد الإعلامي إلى النزول عن الشجرة بلا سلم، وابتلاع مرارة الخيبة، فطوى ذيله بين جنبيه وأقعى صاغراً مسلماً بالواقع الذي فرضته عوامل القدرة الذاتية لحزب الله، مع أن عوامل القوة الشاملة التقليدية تميل كفتها برجحان كبير لصالح العدو الصهيوني الذي يمتلك ترسانة هائلة من أحدث أنواع أسلحة التدمير الشامل، وأكثرها فتكاً وطاقة تدميرية بما في ذلك الرؤوس النووية، فكف يمكن فهم ذلك من دون إدراك الفرق بين عوامل القوة والقدرة، وبخاصة تلك التي تتعلق بتحمل التكلفة والخسائر المتوقعة؟.
• التمييز الدقيق بين الثقة والغرور، وبين اليقين والتردد، أو التشكيك المسبق بإمكانية تحقيق الأهداف المعتمدة لهذه المعركة أو تلك بعيداً عن البروبوغندا وكل ما له علاقة بالحرب النفسية، والمثال السابق يساعد على فهم دقائق هذه الفكرة أيضاً، فالثقة الكبيرة بالقدرة على تحمل تكلفة نصب الخيمة هي التي أدت إلى الإقدام على هذه الخطوة، والدليل رد حزب الله بلسان أمينه العام سماحة السيد حسن نصر الله على موجة التهديد والوعيد الإسرائيلية بكلمتين فقط " يبلطوا البحر"، والسؤال الموضوعي والمشروع هنا: لو كان لدى تل أبيب يقين بالقدرة على تحمل تكلفة إزالة الخيمة هل كانت ترددت لحظة واحدة؟ وهل كان للكيان القائم على القتل والعدوان أن يلجأ للشكوى إلى المنظمة الدولية لإزالة الخيمة؟ والأهم: لولا الثقة البعيدة كل البعد عن الغرور، والمستندة إلى روافع موضوعة هل كان حزب الله قام بنصب الخيمة لو أن لديه أية شكوك بقدرته على حماية قراره وتحصينه، ليس فقط في مواجهة الإسرائيلي، بل في مواجهة الانقياد الأعمى من قبل غالبية المجتمع الدولي لرغبات واشنطن التي تعلنها على الملأ مؤكدة أن أمن الكيان الغاصب يحتل مرتبة متقدمة في سلم الإستراتيجية الأمريكية الحريصة على دعم تل أبيب وتمكينها من الهيمنة على المنطقة، ولكن هيهات هيهات...
• رفع سقف العدوانية الأمريكية وتحركاتها المريبة في الجزيرة السورية تفرض على سورية وعلى كل من يرفضون استمرارية الهيمنة الأمريكية الارتقاء إلى مستوى المسؤولية، فالكثير من الدراسات والتحليلات تشير إلى سعي واشنطن لتوسيع جغرافية سيطرتها المباشرة لتصل مناطق انتشار" قسد" بالتنف، حيث الحدود السورية العراقية الأردنية، وبعض الدراسات الأخرى تذهب إلى أبعد من ذلك فتتحدث عن تزنير كامل المنطقة الجنوبية والشرقية بفصائل إرهابية مسلحة يتم تجميعها وتسليحها وتدريبها لتنضوي تحت العباءة الأمريكية وتنتشر من القنيطرة إلى درعا فالسويداء، ومنها إلى التنف فالبوكمال وعلى امتداد الحدود السورية العراقية وصولاً إلى إقليم كردستان لضمان التواصل المباشر بين الإقليم المذكور، وبين كيان الاحتلال الإسرائيلي، ويستشهد أصحاب مثل هذه الطروحات على دقة هكذا سيناريو باستقدام واشنطن منظومات أسلحة حديثة بما فيها منظومات هيمارس الصاروخية، ونشر مقاتلات جديدة في المنطقة من طراز " إف 22 ـ إف 35"، وهنا يمكن التوقف والإشارة إلى عدد من النقاط التي تساعد على فهم الصورة على حقيقتها، ومنها:
ـ الإعلان عن تنفيذ ما ذكر في الفكرة السابقة يعني تقسيم سورية وتشظيتها، وهو ما عملت عليه واشنطن وكل من يدور في فلكها المأفون منذ آذار/ مارس 2011 وحتى تاريخه، وعجزوا عن تحقيقه، وهم اليوم أعجز مما كانوا عليه سابقاً، حيث كان داعش وأخوته وأبناء عمه وخاله وما شابههم من تنظيمات إرهابية مسلحة فرختها المدجنة الصهيونية الأنكلوساكسونية ينتشرون على مساحات جغرافية واسعة تم تطهير معظمها رغم أنف اليانكي الأمريكي.
ـ التهويل باستقدام منظومات أسلحة متطورة وذات طاقة تدميرية هائلة جزء من حرب نفسية باهتة ومفضوحة، فلدى واشنطن ما يفيض عن الحاجة بأضعاف من ترسانات أسلحة الفتك والتدمير في قاعدتي العيديد وأنجرليك وغيرهما من القواعد المنتشرة براً وبحراً وفضاءً، واستحضار المزيد لا يمنحها تحويل القوة التدميرية إلى قدرة يمكن البناء عليها، والغاية من الإعلان عن مثل هذه الخطوات العدائية يكاد ينحصر في تشجيع ضعاف النفوس للالتحاق بما تجهزه واشنطن من جسد إرهابي مسلح لضمان بقاء الستاتيكو القائم أطول فترة ممكنة، مع الإشارة إلى أن انتشار القواعد الأمريكية وقواتها في المنطقة ومياهها الإقليمية يشكل الورقة الأكثر ضعفاً، لأنها ضمن بنك الأهداف المحملة، وضمن المجال المجدي لأكثر من نوع ومنظومة تسليحية جاهزة بأيدي المؤمنين بأفول الهيمنة الأمريكية، ويدرك جنرالات البنتاغون وبقية مفاصل صنع القرار الأمريكي أن عتبة التحمل الأمريكي لمثل هذا السيناريو أكثر من منخفضة، وتكاد لا تكون موجودة، حتى ولو كانوا قادرين على تسوية كامل المنطقة بالأرض وتحويلها إلى رماد.
ـ أحد أهم أهداف زيادة الحديث عن تصعيد حتمي جديد ضد الدولة السورية يكمن في محاولة فرملة الانفتاح على سورية، وضمان الانتقام من شعبها المتمسك بخياره الوطني والملتف مع جيشه حول قيادة السيد الرئيس بشار الأسد، وهذا ما يجهر به الأمريكيون بكل وقاحة، وتسارع أبواقهم من أصحاب الأدوار الوظيفية إلى تكراره وتعميمه، وخير شاهد على دقة هذا الأمر ما صرح به المبعوث الألماني الخاص إلى سورية ستيفان شنيك داعياً (دمشق وموسكو إلى المشاركة عبر مسار "خطوة بخطوة" الذي اقترحه مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سورية غير بيدرسن، ومؤكداً أن الانتعاش الاقتصادي في سورية لن يتحقق، إلا ببدء تفاوض سياسي بنّاء)، والحديث عن تفاوض سياسي وفق المنطق الأطلسي يعني لي ذرع الدولة السورية، وتغيير ثوابتها وخياراتها، والقبول بالاصطفاف في الركب الأمريكي والالتحاق بقاطرته، ولو في العربة الأخيرة، ومن حق أي متابع أن يتساءل: هل يمكن لسورية واسطة عقد المقاومة القبول بهكذا صكوك إذعانية، وهي التي قدمت أغلى التضحيات للتمسك بالثوابت والحفاظ على سيادية القرار الوطني، وقد أفرز الصمود السوري بدعم الأصدقاء والحلفاء إعادة اصطفافات جيوبولتيكية جديدة هيأت البيئة الإستراتيجية المطلوبة لانتقال العالم برمته إلى نظام دولي جديد ، لا مكان فيه للأحادية القطبية التي تعيش حشرجة الأفول وتعيش خريف عمرها وأيامها الأخيرة باعتراف مراكز الدراسات الإستراتيجية الأمريكية.
• كل ما ذكر قد يساعد على فهم الرسائل التي تضمنها تكرار المناورات العسكرية الروسية المشتركة، والتي أقيمت في ثلاث مناطق جغرافية: ريف حلب ـ البادية السورية، وآخرها كانت ليلية، وتم تنفيذها منذ أيام قليلة في محافظة حماة، وتضمنت إنزالات جوية ليلية، وعندما تشترك القوات الجوية الفضائية الروسية بمناورات ليلية على الجغرافيا السورية في ذروة الحرب الدائرة على الجغرافيا الأوكرانية فأقل ما يمكن قوله: إن العدو المفترض للمناورات أكبر بكثير من محاربة ما تبقى من داعش وبقية التنظيمات الإرهابية المسلحة، وقد يكون مفيداً هنا التذكير بالسقف الجديد لتصريحات وزير الخارجية السوري فيصل المقداد خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده مع نظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في طهران، وما تضمنه من مواقف رسمية لا تتوقف عند دعوة واشنطن لخروج قوات التحالف من المناطق التي تحتلها في الشرق السوري، لأن وجودها لا يخدم سوى غايات "إسرائيل"، بل تصل مرحلة التأكيد على أن الدولة السورية ستمارس حقها المشروع في تحرير أراضيها المحتلة، وستعمل بكل ما تستطع لإجبار الجيش الأمريكي على الانسحاب، مع التشديد على أن سورية وأصدقاءها ليسوا عاجزين عن إنهاء وجود "داعش"، وبالتالي من الأفضل للجيش الأميركي أن ينسحب من سورية قبل أن يتم إجباره على ذلك، ولا شك أن إعلان هكذا موقف من طهران يحمل دلالات إضافية، ورسائل تفهمها واشنطن وأتباعها، وبخاصة أن وزير الخارجية الإيراني طالب في المؤتمر الصحفي نفسه بالخروج الفوري للقوات الأميركية من سورية، مشدداً على أنّ وجود القوات الأجنبية المحتلة فيها لن يجلب الأمن.
خلاصة واستنتاج: صحيح أن الأوضاع متوترة وقلقة، وتحمل الكثير من الأخطار والتحديات والتهديدات المتنوعة، وهذا لا يعني تورط واشنطن والحلف الذي تقوده بالمشاركة المباشرة في أية تطورات ميدانية، فذلك شكل من أشكل الانتحار غير المتوقع، وعندما تعلن واشنطن عن بدء خروجها من المنطقة تصبح المؤشرات على رغبتها بإتمام إحراق المنطقة أكثر خطورة، لكن ما الضامن على ألا يقدم المتضررون من عدوانية واشنطن على النفخ في الجمر تحت الرماد اليوم قبل الغد؟ وهل تستطيع عندئذ عربدات الإدارات الأمريكية المتعاقبة تجنب أن تلفحها النيران التي كانت السبب المباشر في اشتعالها..؟
سؤال نترك الإجابة عليه للأيام القادمة.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024