آراء وتحليلات
هل انتهى عصر الدولار؟
أحمد فؤاد
يفهم من قراءة التاريخ أن هناك حكامًا كثرًا تصرفوا بحماقة وتهور بالغين في مواجهة لحظة تحول كبرى أو نقطة انقلاب في موازين الصراعات، وشعوبًا قد تجاهلت وتعامت عن التحديات المفروضة عليها فرضًا. كانت النهاية في كل الأحوال انهيارًا كاملًا، ومن سوء حظ –أو تقدير- العالم العربي اليوم أن كل أطرافه الفاعلة من حكومات ونخب قد اختارت حل التغييب والإلهاء.
وفي أفضل الظروف فإن الحكومات العربية قد اختارت، سواء بقصر النظر في إدارة الأزمة أو سوء النية، أن تحول الفرصة الكبرى القائمة بكل ما فيها من إمكانيات لها أن تعيد وضعنا على الطريق الصحيح، إلى فرصة للمتاجرة الرخيصة والتخدير وشماعة لتعليق الفشل، وفي هذا تجمعت عوامل سوء أوضاعنا الفعلية مع الأثمان المطلوبة للتحول وتكلفة اقتناص الفرصة والعجز الشديد البائس في الرؤية إلى وساوس جماعية تحكم المناخ العام، إلى حيث لا نريد ولا نقصد، وتحملنا كلها إلى دروب وعرة وطرق موحلة، حيث تتوقف الحركة تمامًا، حتى الغرق.
بداية فإن الحرب الروسية - الأميركية المشتعلة في قلب أوروبا، والسباق الاقتصادي الذي تحول إلى صراع بين واشنطن والصين، قد وصلت إلى النقطة الساخنة، وتحولت بطبيعة وأوزان القوى المنخرطة فيهما إلى محفز قوي لزيادة وتعميق التوتر ورفع درجة حرارته، والدفع بالعالم لمزيد من التحزب والانقسام والعنف، مع عدم امتلاك أي من أطراف الأزمة للتفوق الساحق في كل الجبهات، والأهم مع غياب نية التراجع عن الصدام.
مفتاح فهم اللحظة الحالية يكمن في الفهم الصحيح لتأثير فشل سلاح الحصار الاقتصادي والعقوبات الأميركية على روسيا، وأول توابع الزلزال كان في فقدان الدولار الأميركي لميزة "السمعة" كعملة دولية، ما أدى لتسريع وتيرة التخفف العالمي منه في الاحتياطيات والسيولة الدولية، مع إفراط واشنطن في الاعتماد عليه كأداة فاعلة للعقوبات والحصار الاقتصادي لأي دولة مستهدفة، إضافة إلى التكثيف الأميركي لطباعة الدولار ضمن برامج التنشيط النقدي لاقتصادها في فترة "كورونا" وما بعدها، وذهاب "الاحتياطي الفيدرالي" بعيدًا في سياسة رفع أسعار الفائدة، بشكل مثل تصديرًا للتضخم إلى كل دول العالم تقريبًا، في سياسة أنانية حقيرة، كانت نتيجتها الفعلية هي تراجع الدولار كمكون للاحتياطيات الدولية من 72% إلى 58% في العقدين الماضيين، وزيادة الرغبة في التحرر والانعتاق من خدمة المتطلبات الأميركية ومصالحها الخالصة.
ببساطة وإيجاز، فإن قرار الاحتياطي الفيدرالي الأخير، برفع الفائدة 100 نقطة أساس (1%) يؤدي إلى سحب رؤوس الأموال من دول العالم، ومن بينها المنطقة العربية، إلى الاستثمار في السندات الأميركية التي زادت عائداتها، وبالتالي تدفع العملات المحلية إلى الانخفاض أمام الدولار الأقوى، مهما حاولت البنوك المركزية العربية الاقتداء بالأميركي ورفع الفائدة، ما يمثل خسارة فادحة لنا، على المستوى الشخصي جدًا والمجرد. العملة الضعيفة تعني التضخم، تعني أن القيمة الحقيقة للمرتبات والمدخرات تتناقص، تعني أن الحصول على رغيف الخبز صار أصعب وأغلى، وفي مناخ عالمي تزداد فيه صعوبة الحصول على الغذاء، الذي تحول مع الصراع إلى سلاح آخر في جعبة المتحاربين، فإننا أمام جحيم يومي مستمر، وهو ما يحدث في كل بلد عربي بصورة مكررة أليمة، فقط دول النفط تبقى بعيدة عن هذه المعادلة لبعض الوقت.
على المستوى الوطني، فإن الربط بين عملة البلد والدولار، يسمح بسحب فائض الأموال المتاح للاستثمار إلى السوق الأميركية، بما يعني مباشرة نقص الاستثمار والدفع بطوابير جديدة إلى البطالة، وتوقف المشروعات، وتعثر القطاعات الحيوية للاقتصاد، وهو ما نعاينه في أية دولة عربية اليوم، حتى تلك التي رضخت وسلمت إدارة اقتصادها الوطني لصندوق النقد الدولي، وقبلت بكل شروطه وضوابطه، لما تسميه عمليات "إصلاح اقتصادي".
الآثار السلبية للعجز الأميركي الظاهر، ووضع الاقتصاد العالمي المكشوف أمام سياسات وقرارات الاحتياطي الفيدرالي، كان في فقدان الثقة في قدرة الدولار الأميركي على الاستمرار كعملة تبادل عالمية، تتمثل ميزتها الأولى والأهم في "الثقة"، ما أدى بنا إلى وضع جديد تمامًا مع زيادة أمد وضع استنزاف اقتصاديات أوروبا دون حل يبدو في الأفق، ما استتبع نوعًا جديدًا من الاتجاه العالمي نحو الشرق، روسيا والصين، والذي يظهر في هذه اللحظة ندًا قادرًا على توفير مسارات وأنماط جديدة تمامًا من التجارة العالمية، وفرض نمط عالمي مختلف، وجديد، يصنع بدوره نظامًا عالميًا جديدًا، يكسر واقع الهيمنة الأميركية المستمر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهذا النظام لن يمس فقط دور الدولار، لكنه سيسحق قبله أو معه دور الشركات العابرة للجنسيات –الأميركية- في التحكم والتجارة والاستثمار الدولي، لصالح عودة دور الحكومات والدول إلى أداء دورها الطبيعي، سواء على أراضيها أو بينها وبين غيرها.
هذه الحقائق عكسها قرار وكالة "فيتش" بخفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة من "AAA" إلى "AA+"، والأسباب التي استندت إليها الوكالة هي: معضلة الديون الأميركية، والعجز القياسي التاريخي للموازنة الأميركية، والشكوك حول الحوكمة، هذا التقرير لوكالة أميركية، وليست مجرد ظلال تخمينات أو وهم تحليلات تقود إليها أمنيات، الحقيقة هي أن الأزمة الأميركية لم تعد مستترة بعيدة ولا خافية وراء جدران.
الأمر الحقيقي الثابت، أن كل تلك القضايا الكبرى في الصراع العالمي المشتعل القائم مصيرية، ثم هي موصولة ببعضها بعضًا، متشابكة في مواقع إدارتها، متعددة صور أبطالها وقادتها والمؤثرين النافذين فيها، والعالم العربي فيها يشبه مريضًا في غيبوبة، لا يستطيع بقياداته الحالية وقدراتها وإمكانياتها البائسة أن يدرك إلى أي مدى يتغير العالم من حوله، ثم إنه في أفضل الفروض لو استفاق حالًا، فسيبقى على سريره مأخوذًا بالمفاجأة، وسيقف طويلًا أمامها مشدوهًا ذاهلًا بتطوراتها، التي تكسر بالنسبة له كل مألوف.
إن النظام العالمي القديم، والذي عرفناه وأذاقنا المر والأذى، يوشك أن يتحول إلى لعبة أخيرة في مباراة كرة قدم، حل وقتها الضائع، بين مرحلة من النظام الدولي انتهت، أو هي على وشك، ومرحلة جديدة لم تولد بعد، مباراة جديدة تمامًا لا نعرف على وجه اليقين قواعدها، ولم تتحدد فرقها، ولا معايير الانتصار والهزيمة بها، لكن الحدود والأدوار للقوى الفاعلة قد تقررت، فإننا على وشك شهادة ميلاد "نظام جديد" عبارة عن مركزين كبيرين للصين ومن معها في جانب، والولايات المتحدة وتوابعها في جانب آخر، وبينهما نظام عالمي عاجز، غاية ما يستطيع أن يناقشه مسائل المناخ والبيئة وغيرها، مما لا يكون أولوية على لائحة المتصارعين الجدد.
الواقع أن الأنطمة العربية، كلها بلا استثناءات، قد فشلت في قيادة المشروع الوطني للدولة نحو ضفة آمنة، وهي أنظمة فقدت مصداقيتها وخسرت قدراتها بالفساد الداخلي الرهيب، وكبت الحريات والحقوق الإنسانية الأساسية، وإهدار الموارد والثروات في مشروعات نصف مدروسة، وقبل كل شيء آخر، بقبول الحياة في ظل التبعية للقوى الأجنبية، الولايات المتحدة الأميركية تحديدًا، وهي أنظمة يمكن محاكمتها بتهمة الخيانة، لأن التقصير فيها كان المبتدأ والسبب والعنوان، لم يكن طارئًا أو مفاجئًا، بل كان الثابت الوحيد ومنتهى فعلهم وقدراتهم.
إن حاضر الحياة في الدول العربية، مع هذه التبعية المقيتة، بالغ الصعوية وغارق في المشاكل، والمستقبل محاصر مقدمًا بضغوط شديدة متعددة، والهوية التي تمنح الأمة روحها وشخصيتها مهددة هي الأخرى بالضياع، أمام عوامل الاختراق السياسي والاقتصادي والثقافي والإنساني، وفي هذا كله فإن التشظي الداخلي يضاعف من حجم الأزمة ويعمقها ويزيد من احتمالات النزيف والخسارة.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024