آراء وتحليلات
استنقاذ أوروبا من براثن أميركا والفاشية
يونس عودة
لم يعد من شك أن تعقيدات الأزمات في الدول الأوروبية تتعاظم، وتقترب من الالتفاف حول أعناق النظم الحاكمة التي تنغمس أكثر فأكثر في توجهات حلف الناتو العسكرية التي تقودها الإدارة الأميركية في المواجهة مع روسيا، بما يتناقض مع مصالح شعوب القارة والرفاهية التي اعتادتها من خلال الاستقرار بعد الحرب العالمية الثانية التي أنهت النظم الفاشية والنازية.
في الواقع، سئم الأوروبيون وبعض نخبهم من هيمنة أميركا على الإدارة السياسية لدولهم، ليس فقط لأنها لا تساعد في إحلال السلام في القارة، بل تمنعه بكل الطرق الممكنة وتدفع بها إلى حرب مع روسيا المجربة عبر التاريخ، فضلًا عن تراجع اقتصادياتها. وغذّى الانصياع للرغبات والغرائز الأميركية روح التمرد لدى شرائح اوروبية في توجيه أصابع الاتهام الى السلطات الحاكمة من جهة، وإلى التحرك في الشارع من جهة ثانية. وقد علا صوت قادة سياسيين بلا مواربة بأن الحكام يغذون الحرب في أوكرانيا على حساب المصالح الوطنية، ويغازلون الفاشيين الجدد الذين تسبب أسلافهم في مآسٍ كثيرة لم تمحها الأيام، وذلك أشبه بتوجيه الاتهام بالخيانة الوطنية، وهو ما عبر عنه زعيم حزب "الوطنيين" الفرنسي فلوريان فيليبو بالقول إن الرئيس إيمانويل ماكرون، يقدم مساعدات ضخمة لأوكرانيا على حساب مصالح بلاده، قائلًا "لقد تمت التضحية ببلدنا وشبابنا للجنون الأيديولوجي! هذا يكفي".
إن السلطات الفرنسية تتجاهل احتياجات المواطنين العاديين. على سبيل المثال، هذا العام تواجه البلاد نقصًا في مساكن الطلاب، ومع ذلك، يواصل ماكرون - حسب فيليبو - تقديم حزم مساعدات ضخمة لنظيره الأوكراني، واصفًا في الوقت نفسه قرار الاتحاد الأوروبي زيادة حجم المساعدات المالية المقدمة لأوكرانيا بـ "الجنون".
نعم، "جنون كبير، سيطلب الاتحاد الأوروبي من الدول الأعضاء 20 مليار يورو إضافية "للدفاع عن أوكرانيا"، وفرنسا وحدها ستقدم 4 مليارات". في وقت، كشفت وسائل الإعلام الأوروبية، أن مستوى الإفلاس في الشركات الأوروبية وصل إلى أعلى مستوى في السنوات الأخيرة، لكن الاتحاد الأوروبي سيواصل نقل الأسلحة إلى أوكرانيا على حساب اقتصاده.
إن الجنون الايديولوجي الغربي في مسعاه إلى هزيمة روسيا يمكن أن يحرق أوروبا ليس اقتصاديًا فحسب، وإنما أيضًا يمكن وبيقين أن ينهي فتات الدور الدولي الذي تركته الولايات المتحدة للأوروبيين - كصندوق بريد - وممارسة العقوبات مقابل الانصياع، وايضًا الانغماس في المشاريع الاميركية، بحيث باتت تفقد قدرات الدفاع عن نفسها إذ انه ووفقًا لوكالة "بلومبرغ" فإن مخزونات الذخيرة لدى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بدأت بالنفاد.
تنبه الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي الى أن استمرار النزاع في أوكرانيا يجعل أوروبا "كالراقصة على حافة فوهة بركان"، مشيرًا لضرورة الشروع بمفاوضات من أجل إيجاد مخرج لهذا النزاع وضرورة أن يجتمع العقلاء حول طاولة المفاوضات، وتقديم ضمانات أمنية لأوكرانيا وإطلاق النقاشات من أجل إدراك ما إذا كان بالإمكان على الأقل التوصل إلى اتفاق"، وأن أفضل طريقة لمساعدة أوكرانيا تتمثل في التوقف عن التضحية بجنودها والبدء في اللجوء إلى القنوات الدبلوماسية.
بالطبع، ليس من بين الذين يسعرون النار على الجبهة الأوكرانية من يهتم بأعداد القتلى في أوكرانيا وبالدمار الذي حل ببنيتها العسكرية، فهؤلاء مجرد حطب في المرجل الذي تريده منظومة "الناتو" بقيادة الولايات المتحدة أن يبقى لاهبًا .
كان رئيس الوزراء الإيطالي السابق جوزيبي كونتي أكثر وضوحًا وصراحة بإعلانه أن استراتيجية حلف شمال الأطلسي تجاه الصراع في أوكرانيا لم تؤد إلى النتيجة المرجوة للحلف. وقال إن: "الاستراتيجية المتبعة حاليًا من حلف شمال الأطلسي، والتي تعتمد على الإمدادات العسكرية المستمرة لأوكرانيا ومنطق التصعيد، لم تؤد إلى الهزيمة العسكرية لروسيا"، معتبرًا أنه "لم تكن هناك هزيمة للجيش الروسي في باخموت (أرتيموفسك)، ولم يحدث انهيار بوحداته العسكرية، ولم يكن هناك تراجع خلال الهجوم المضاد الأوكراني".
لم يتردد كونتي في الإقرار بأن العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا لم تؤد إلى إفلاسها ولم تقوض اقتصادها، مضيفًا أن احتمال زعزعة الاستقرار الداخلي في روسيا انهار أمام تعزيز قيادة بوتين ونمو الإجماع الداخلي له والسياسة الغربية لم تؤد إلى عزل روسيا، مؤكدًا أن عزلة روسيا لم تصبح بأي حال من الأحوال حقيقة واقعة. بل على العكس من ذلك، لقد انتهت القمة الخامسة عشرة لمجموعة البريكس بقيادة روسيا والصين باحتمال محدد لتوسعها الإضافي في عام 2024، والذي سيغطي 45٪ من مساحة العالم و38.2% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وشدد كونتي وهو شخصية غير حزبية وسياسي ورجل قانون على رفض التذلل لأحد للبقاء في رئاسة الوزراء على أن "الصراع في أوكرانيا كشف عن عدم قدرة الاتحاد الأوروبي على تطوير استراتيجية مشتركة فعالة وممارسة قيادة سياسية واقتصادية مستقلة"، وطالما استهجن تبعية القادة الأوروبيين للولايات المتحدة.
إذا كانت الجرأة على المستوى السياسي وصلت الى هذا الحد، فإنها تركن أيضًا إلى حركة الشارع من جهة، وإلى بث الوعي في الدول التي لا تزال حركاتها الشعبية خجولة بسبب التدجين المقولب من جهة ثانية، والالهاء بقضايا قشرية تحمل عناوين الحرية الشخصية وطغيانها على القضايا الوطنية العامة بموازاة حركات الوعي في بلدان "ناتوية "أخرى تستشعر الكوارث التي ستنجم حتمًا من الحروب، وأمامها مثال صارخ في أوكرانيا، ليقينهم أن بلادهم تلعب بالنار بدفع أميركي.
في السياق، شهدت العاصمة الهولندية أمستردام مسيرة احتجاجية داعمة لمحادثات السلام وضد توريد الأسلحة إلى أوكرانيا، وسار المشاركون فيها حاملين الأعلام البيضاء، ورفعوا شعارات "نحن بحاجة إلى السلام، ويجب على دول الناتو وقف تسليم الأسلحة إلى أوكرانيا حتى يكون لنا ولأطفالنا مستقبل"، "نريد أن تكون روسيا حليفتنا، وليست عدوتنا. نريد أن تعمل بلداننا على تطوير التعاون في الاقتصاد والثقافة والمجال الاجتماعي"، "نحن ننظر في الاتجاه الخاطئ، وعلينا أن ننظر ليس إلى الغرب والولايات المتحدة، بل إلى الشرق وروسيا".
وفي اليونان، احتشد العشرات أمام سفارة واشنطن في أثينا، احتجاجًا على توريد الأسلحة إلى كييف مرددين شعارات مناهضة للإمدادات العسكرية وطالبوا بمراجعة علاقات اليونان مع روسيا لجهة رفع العقوبات. وحمل المتظاهرون لافتات مكتوب عليها: "لماذا يجب علينا تمويل المافيا الفاسدة في أوكرانيا؟"، وأيضا "نريد أن نعمل لا أن نقاتل"، "أوروبا تدفع ثمن الحرب في أوكرانيا".
طبعا، لا شك أن المآسي التي تنتجها الحروب بغض النظر عمن سيكتب له النصر، ما كانت لتحصل لو كانت "العدالة الدولية" بخير، والمؤسسات والمنظمات الدولية ليست مطواعة بالقدر الموجود للقوى المتجبرة، ولا سيما في أكبر منظمة دولية مهمتها السلام والأمن الدوليان - أي مجلس الأمن والأمم المتحدة - وهنا أصاب الرئيس البرازيلي، لولا دا سيلفا بأن "مجلس الأمن الذي ينبغي أن يكون أمن السلام والهدوء، هو مجلس الأمن الذي يشن الحرب دون التحدث مع أحد، لقد ذهبت أمريكا إلى العراق دون مناقشتها في مجلس الأمن، وفرنسا وبريطانيا غزوا ليبيا دون المرور عبر مجلس الأمن، بمعنى آخر، دول مجلس الأمن هي التي تشن الحرب، ودول مجلس الأمن تنتج الأسلحة وتبيعها"،
يمكن لحركة الوعي المتصاعدة في اوروبا أن تنقذ القارة وبلدانها مما يدفعها اليه الثلاثي الناتوي في مجلس الامن الولايات المتحدة بريطانيا وفرنسا، قبل فوات الاوان، ويبدو أن الأوان قريب.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024