معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

حرب أم تهديد
27/04/2019

حرب أم تهديد

أحمد فؤاد

يمنح فهم التاريخ، بعد قراءته الواعية، للباحث المدقق، الكثير من الخيوط، سواء للإمساك بالقرارات والتصرفات، أو لتوقع أفضل للمستقبل، فالمصالح المتشابكة بين الأمم هي الدافع الأول لحركة قد تنتج الصدام أو الوفاق، التهدئة أو الصراع، ومهما بدا أحيانًا من عنف لحظي، فإن التورط في صراع بمعناه الواسع يظل رهنًا بعوامل أخرى، أبعد من قدرة أحد الأطراف على حشد قواه.

منذ أيام تحاول الولايات المتحدة بقيادة دونالد ترامب دفع أوروبا دفعًا إلى آتون صراع مع طهران، والإيحاء للمتابعين برغبتها في دخول حلبة صراع عسكري آخر بالشرق الأوسط، والحجة الجاهزة هنا وقف تدفق البترول الإيراني إلى أسواق العالم، أو "تصفيره" كما قالت تصريحات الساسة الأميركيين، والاكتفاء ببقية منتجي دول "أوبك"، ممن هم أطوع لـ "ترمب" من بنانه.

التصرفات الأميركية ليست جديدة أو مستغربة، فالبلد الذي نشأ من ـ وعلى ـ القوة الغاشمة، يريد العودة لممارساته المفضلة على الساحة العالمية، وفي عهد رئيس يعبر تمامًا عن الشخصية الأميركية، لكن هل يريد "ترمب" بالفعل، لا بالقول والتهديد، خوض غمار حرب جديدة وشاملة في منطقة الشرق الأوسط حاليًا، هذا هو سؤال الساعة، وليس غيره أولى بالإجابة والاهتمام.

الحرب ـ أي حرب ـ هي مرحلة متصلة من الصراع بين طرفين أو أكثر، والمعارك العسكرية هي مجرد صورة لهذا الصراع، وليست الصراع كله، والهدف النهائي للحروب غالبًا ما يتحقق بفرض إرادة طرف على آخر، وبتحققه ينتهي الصراع أو يخفت حتى يبرد تمامًا، وفي القلب من الصراع يبرز الهدف الرئيس والأساس منه، والهدف الأميركي المعلن "ضبابي" إلى حد بعيد، أما الهدف الحقيقي وهو ضمان أمن الكيان الصهيوني، وإخراج القوة الإيرانية الفتية من معادلة الشرق الأوسط، فهو هدفها الحقيقي والأخطر.

الجانب الأخلاقي للحرب، كجزء ملتهب من صراع بين أطراف، لا يقل أهمية عن الجانب العسكري، فالمنتصر يسعى إلى ضمير العالم وفكره، قبل الانخراط الفعلي في معارك البارود والنار، وفي هذا الجانب يتجلى الفشل الأميركي ظاهرًا واضحًا، فأوروبا وعلى رأسها ألمانيا، ترفض مسايرة رغبات واشنطن تجاه طهران، وفوق عدم الرغبة في فتح صراع جديد بلا هدف سوى مصالح الكيان الصهيوني، هي تريد جزءاً من الكعكة الإيرانية، بدل تركها بالكامل لصالح الشركات الروسية والصينية، ولا يتبقى في الخندق الأميركي سوى الكيان الصهيوني وبعض دول الخليج، التي تجيد إشعال النار، لكنها لا تعرف طريقة لإطفائها.

الأخلاق لا تحقق بالطبع الانتصارات في ساحات المعارك، لكنها تعطي قوة للمنتصر، وتساهم في استقرار ما بعد تبخر دخان المدافع، والولايات المتحدة لم تنجح ـ حتى اللحظة ـ في جذب الحلفاء إلى صفوفها، سوى بالتهديد بالعقوبات الاقتصادية وإلغاء إعفاءات تجارية، وهذه وإن كانت نقطة قوة، فإنها شاهد أوفى على فقر عميق في السياسة الأميركية.

الولايات المتحدة تعاني من مأزق الانفراد بقمة العالم، وممارسة دور الشرطي والجلاد أحيانًا، وتجاربها في الألفية الجديدة بائسة للغاية وفاشلة، من أفغانستان إلى العراق، والمصروفات المادية على حربيها، تجاوزت تريليوني دولار، طوال الفترة من 2001 إلى 2017، صنعت أزمات متتالية لها، فضلًا عن عدم تمكنها من الحسم العسكري في أي من الدولتين.

وبعيدًا عن مناقشة مسألة السلاح، هذا إن تم الاحتكام له بالفعل، فإن أفضل ما تمخضت عنه سنوات الحصار الطويل لطهران، هي وجود نوع من التنمية المستقلة، المتمحورة حول الذات، فضلًا عن الوجود الإقليمي القوي، وهذا بالتحديد ما يدفع الولايات المتحدة للصخب والتهديد بعمل عسكري، فلا أخطر عليها وعلى قاعدتها العسكرية المتقدمة من دولة تمتلك قرارها، قادرة على الفعل، متحملة لعواقب فعلها.

الأزمة الأميركية مع الصعود الصيني إلى قمة العالم اقتصاديًا، وبروز قوى أخرى، تحاول رسم شكل جديد لعالم لا يزال في طور التشكل، ولا يبقى تحت هيمنة قوة واحدة مسيطرة، لا تترك لواشنطن فرص تجريب أو مغامرات جديدة، أو خوض معارك بتكاليف مرتفعة، و"ترمب" المأزوم منذ قدومه إلى البيت الأبيض، وهو يريد استنزاف حلفائه ماديًا لتعويض النفقات الأميركية الهائلة، ولا يريد في هذه المرحلة أكثر من دفع الإيرانيين للخلف، بعيدًا عن ساحة يريد تصفيتها، وتمرير "صفقة القرن" بهدوء شديد.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات