آراء وتحليلات
الوجه الآخر لكيسنجر (1)
د. علي دربج - باحث وأستاذ جامعي
لطالما عرف العالم هنري كيسنجر كمنظّر وسياسي أمريكي لامع، يحظى بالاحترام والمودة من قبل عدد كبير من الرؤساء والحكام والملوك وقادة الدول والسياسيين، ويستشهد بكلامه أيضًا الاستراتيجيون والأكاديميون والنخب البحثية. كما تتهافت عليه وسائل الإعلام لأخذ وجهة نظره في الأزمات المعاصرة، ويطمعون كذلك باستشراف المستقبل من خلال استنطاقه في أي قضية تخص هذه المنطقة أو تلك.
لكن مهلا، فإن للرجل وجهًا آخر. فالتاريخ الحقيقي لهذا السياسي العتيق -اليهودي الجنسية الذي شغل الدنيا في العقود الماضية وسبقت شهرته اسمه في الشرق والغرب - حافل بالقتل والتآمر على الدول والشعوب ومناصرة الديكتاتوريين والقتلة.
والأكثر أهمية أن سيرته التي يخفيها وراء قناع الدبلوماسية أشبه بـ"الدراكولا" المرعب، هو ربما يفوق، ضراوةً وشراسةً وشراهةً للحروب وافتعال الازمات والفتن، القيادات الامريكية التي اشتهرت بسفكها لدماء الشعوب والامم مثل جورج بوش الاب ومن بعده الابن، ودور هذا الثنائي في حصار العراق في تسعينيات القرن الماضي، ثم غزوه، وقتل أكثر من مليوني مدني بريء في العام 2003، وما بينهما من احتلال افغانستان.
من هو هنري كيسجنر؟
في 27 ايار الماضي، بلغ هنري ألفريد كيسنجر 100 عام. كان في يوم من الأيام لاجئًا مراهقًا من ألمانيا النازية ومستشارا للرؤساء لعدة عقود، وصورة رمزية للسياسة الواقعية الأمريكية، وتمكن من الوصول إلى علامة القرن بينما لا يزال يحتفظ بكامل قواه العقلية.
وبعد شهرين من عيد ميلاده المائة، سافر إلى الصين، كما فعل سرًا لأول مرة في عام 1971 عندما كان لا يزال مستشارا للأمن القومي للرئيس ريتشارد نيكسون. وهناك ــ وبخلاف الاستقبال الفاتر الذي حظي به مؤخراً مسؤولون أميركيون مثل وزيرة الخزانة جانيت يلين والمبعوث الرئاسي الخاص للمناخ جون كيري ــ استقبل الرئيس الصيني شي جين بينج، وغيره من كبار الشخصيات كيسنجر، بمرتبة الشرف.
أكثر من ذلك، وصف دانيال دريزنر من كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية في مقال في صحيفة "بوليتيكو" هذه الحفاوة الصينية بـ"مهرجان الحب هذا" كونه "خدم مصالح كلا الطرفين". بالنسبة للصين، كانت هذه إشارة إلى أن الولايات المتحدة ستكون أفضل حالا في متابعة سياسة الاحتضان الدافئ التي بدأها نيكسون منذ فترة طويلة بناء على طلب كيسنجر، بدلا من الكتف الباردة التي عرضتها الإدارات الأخيرة. بينما تمثل الزيارة لكيسنجر، على حد تعبير دريزنر فرصة للقيام بما كان يحاول القيام به منذ أن ترك منصبه العام: الحفاظ على أهميته ونفوذه.
ما هو سرّ التستر على سيرة كيسنجر الدموية؟
في الواقع، حتى عندما بلغ كيسنجر المائة من عمره، تبقى "أهميته" موضع ترحيب، وتأثيره لا يزال خبيثًا كما كان دائمًا. غير انه وعلى النقيض من الرئيس نيكسون (شغل الاستراتيجي الذائع الصيت، منصب مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية في عهده)، وبعض أولئك الذين عمل لهم كمستشار غير رسمي (رونالد ريغان وجورج دبليو بوش)، فإن سمعة كيسنجر كرجل دولة لامع لم تتطلب إعادة التأهيل قط. فبعد أن قدم المشورة -سواء كانت رسمية أو غير رسمية- لكل من دوايت أيزنهاور ودونالد ترامب (ولكن ليس جو بايدن على ما يبدو)، ترك بصمته على السياسات الخارجية لكلا الحزبين الرئيسيين.
والمخزي انه وفي كل تلك السنوات، لم تجد أي وكالة إخبارية أمريكية "جدية" أنه من المناسب تذكير العالم بتاريخه الطويل من الجرائم الدموية. والاسوأ أنه مع اقتراب عيد ميلاده المائة، استُقبل بمقابلات متملقة أجرتها، على سبيل المثال، جودي وودروف، مذيعة برنامج NewsHour على قناة PBS.
اما سبب حرص كيسنجر على الظهور والإدلاء بمواقف سياسية، فيعود الى انه من الصعب على اللاعبين السياسيين الأقوياء أن يتخلوا عن المسرح بمجرد انتهاء عروضهم. فالكثيرون ومنهم كيسنجر، يتوقون إلى الظهور مرة أخرى حتى عندما يبدأ جمهورهم في التحديق في النجوم الأحدث.
وفي بعض الأحيان، لا يمكن استعادة الأهمية والنفوذ إلا بعد مسح الذاكرة السياسية، حيث تتلاشى أصداء أفعالهم الفظيعة وحتى جرائمهم المحلية أو الدولية في صمت، هو ما نجح كيسنجر في فعله نوعا ما، ولهذه الغاية لا تتطرق الا قلّة من وسائل الاعلام إلى سوابق هذه الشخصية التي جمعت بين الصرامة الى حد الاجرام والدبلوماسية.
وتبعًا لذلك، نشرت شبكة سي إن إن في العام 2011، مقالا بقلم ديفيد أندلمان - مراسل أجنبي سابق لصحيفة نيويورك تايمز وطالب سابق لكيسنجر في جامعة هارفارد - وصف ما شاهده بالعجيب، حينما رأى تجمعًا من المتظاهرين خارج جمعية الشبان المسيحيين في شارع 92 في مدينة نيويورك، يحتجون على حديث للرجل العظيم ذاته. آنذاك سأل الكاتب كيف يمكن أن يشيروا إلى كيسنجر على أنه "مجرم حرب مشهور"؟
المثير، ان أندلمان وبعد بضع سنوات، وجد نفسه يتساءل مرة أخرى عن الذي اقترفه هذا الرجل، بعدما شجبت مجموعة مماثلة من المتظاهرين في نفس المكان "تاريخ كيسنجر فيما يتعلق بتيمور الشرقية وبابوا الغربية وفيتنام وكمبوديا وتشيلي وقبرص وبنغلاديش وأنغولا وأماكن أخرى".
واللافت ان اندلمان بادر الى ايجاد التبريرات والذارئع لافعال كيسنجر الاجرامية، لهذا اوضح أن "الأحداث التي كانوا يحتجون عليها كانت منذ عقود مضت"، وأنها وقعت في وقت كان فيه معظم المتظاهرين "بالكاد على قيد الحياة".
ومثل كثيرين آخرين ممن يسعون إلى تبرئة مجرمي الحرب القدامى، كان اندلمان في الواقع، يشير ضمنًا إلى أن جرائم الماضي لا معنى لها، باستثناء ربما الشهادة "على نطاق واسع من الأشخاص والأماكن والأحداث التي أثر فيها [كيسنجر]".
ما هو النهج الذي اتبعه كيسنجر خلال مناصبة المتعددة؟
النهج الذي اتبعه كيسنجر في التعامل مع السياسة الدولية كان ثابتاً لأكثر من نصف قرن. حيث صبّ جهده على متابعة الإجراءات التي تعزز القوة العسكرية والإمبريالية للولايات المتحدة، فضلا عن تجنب تلك التصرفات التي قد تقلل من قوتها بأي شكل من الأشكال أو - في عصر الحرب الباردة - تعزز قوة خصمها الأكبر، الاتحاد السوفييتي.
من هنا، وانطلاقا من هذا العنوان، فإن أي تيار محلي حتى لو في مكان آخر على وجه الأرض، كان يسعى في ذلك الوقت للاستقلال - سواء سياسيًا أو اقتصاديًا - أو إلى حكم أكثر ديمقراطية، يتحول بنظر كيسنجر الى تهديد لهذا البلد. ولهذه الغاية وجب القضاء على مثل هذه الحركات وأتباعها، سرًا، إن أمكن، وعلانية إذا لزم الأمر.
في المحصّلة كانت رئاسة ريتشارد نيكسون، بطبيعة الحال، الفترة الذهبية التي تعاظم فيها نفوذ كيسنجر بشكل كبير، خصوصا بين عامي 1969 و1974، حيث عمل كمهندس للإجراءات الأمريكية في المناطق الرئيسية على مستوى العالم.
الحلقة الثانية.. عندما أعطى كيسنجر الضوء الأخضر لإندونيسيا لغزو تيمور الشرقية، ومسؤوليته عن حملة القصف على كمبوديا.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024