آراء وتحليلات
الهيمنة الإقليمية ونهاية سياسة القفازات الليبرالية المخملية
عبير بسّام
هل نتذكر إطلاق الوثيقة التي كشفت من قبل وسائل الإعلام الأميركية، والتي تحمل ختم "سري جداً" وعنونت بـ "حالة الصراع اعتباراً من 1 آذار/مارس"؟ حملت الوثيقة يومها ملخصاً تفصيلياً لساحة المعركة في أوكرانيا. نشرت الوثيقة في نيسان/ أبريل الماضي على وسائل التواصل الاجتماعي من قبل مجهول.
نشر الوثيقة أمر أصبح من الماضي، ولكن الحاضر الذي ترتبط به الوثيقة، أنها لم تتحدث عن تغيير في الصراع في اوكرانيا فقط، بل ذكرت تغيير الصراع في الشرق الأوسط وجزئياً في الصين. وهذا الأمر له علاقة كبيرة بما تخطط له الولايات المتحدة من عودة استعراضية كبرى لها من أجل إعادة الهيمنة الأميركية في مناطق مثل الشرق الأوسط، وأوكرانيا والمحيطين الهندي والهادئ.
الهيمنة الإقليمية أو الهيمنة الدولية، التي تسعى لها الدول الاستعمارية الكبرى الحديثة، ومنها الولايات المتحدة ليست جديدة العهد، اذ انتشرت الإمبراطوريات الغربية منذ القرن الخامس عشر خارج حدود بلادها وتحاربت مع منافسيها في داخل القارة الأوروبية. كما عملت الولايات المتحدة ومنذ تأسيسها على نشر قوتها في الأميركتين، فابتدأت الولايات المتحدة بعد انضمام اتحاد الولايات الثلاثة عشرة الأولى بالتوسع غرباً باتجاه المحيط الهادئ، وخلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر طردت جميع المستعمرين الأوروبيين من بريطانيين وفرنسيين وبرتغاليين مما كانوا يتواجدون على حدودها وضمن نطاقها الإقليمي. واعتمدت الخطة الأميركية على ما عرف بـ"مبدأ مونرو"، الذي أعلنه الرئيس الأميركي جيمس مونرو في رسالة سلمها للكونغرس الأميركي في 2 كانون الأول/ ديسمبر، والذي يدعو إلى ضمان استقلال نصف الكرة الغربي من التدخل الأوروبي بغرض اضطهادهم أو التدخل في تقرير مصيرهم.
لكن الهيمنة الأميركية لم تتوقف على نصف الكرة الغربي، بل امتدت وخاصة بعد انتصارين ساهمت فيهما الولايات المتحدة في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبالتأكيد في كلا الحربين الكبريين كان هناك تغير في دول المحور ودول الحلفاء. صحيح أن الحرب العالمية الأولى لم تساهم فعلياً في تجذر الدور الأميركي على الساحة العالمية، لكن الحرب العالمية الثانية ساهمت في تعميق الهيمنة الأميركية ليس في نطاق الدولة المركزية الإقليمي وإنما حول العالم وخاصة في أوروبا. كما ساهمت الحرب العالمية الثانية في نشوء تحالف مركزي وإستخباراتي ما بين الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى والذي نما بشكل اطرادي.
توسعت سياسة الهيمنة الأميركية بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي، واعتمدت إظهار أميركا بوصفها أم الديمقراطيات الليبرالية العالمية، وتبنت سياسة الانفتاح الاقتصادي سبيلاً للسيطرة على العالم. غير أن هذه السياسة ابتدأت بالتراجع منذ تسلم الرئيس دونالد ترامب الحكم في 20 كانون الثاني/ يناير 2017. يشرح الأكاديمي جون ميرشماير في محاضرة له في أيار/ مايو الماضي، حول كتابه "الوهم الكبير: الأحلام الليبرالية والواقع الدولي" إلى أن تراجع الولايات المتحدة عن سياساتها الليبرالية سببه الأساسي كان سياسة دونالد ترامب، الذي كشف عن وجه أمريكا الحقيقي كقوة مهيمنة عسكرياً. سقوط القناع عن وجه امريكا أدى إلى تراجعها كقوة ليبرالية عظمى مهيمنة على العالم، وهذا بالتأكيد يثير الرعب لدى الليبراليين حول العالم. فتراجع هذه السياسة التي سيطرت منذ إعلان انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991، ومن ثم انهيار المنظومة الشيوعية التي كانت تقودها، والتي مثلت المصالح المطلقة للشركات الكبرى العابرة للقارات، أي هيمنة رأس المال على الحكم دون اللجوء لحروب عالمية كبرى، والتي تمكنها من التحكم بسياسات الدول لصالح عمل الشركات، ومن التوسع بأعمالها بما تقتضيه مصلحة الشركات وليس مصلحة الدول العظمى أو الصغرى حتى هو سقوط لكل مشاريع الليبراليين.
تراجع السياسة الليبرالية أدى إلى انكشاف وجه أميركا الحقيقي، الذي موهته سياسة باراك اوباما الانفتاحية، والتي أعادت نشر الجيش الأميركي في دول عدة أخرى في الشرق الأوسط مثل سوريا والعراق والأردن بحجة محاربة الإرهاب. والسبب الأساسي أن أمريكا العظمى لم يكن لديها سياسة خارجية محددة، لأنها ليست بحاجة لذلك كقوة أحادية، كما يقول ميرشماير، ويوضح أن هذه السياسة تمثل الوجه الواقعي للسياسة الأميركية ولكن بقفازات مخملية، وهي تعبر عن سياسة ليبرالية ناعمة، لكن هذا القفاز المخملي قد سقط وإدارة بايدن من خلال ممارساتها الاستفزازية والعدائية لم تعد قادرة على تقديم نفسها كسيدة للعالم الحرّ. ثم يشير ميرشماير إلى أن مسار نشر الديمقراطية الأميركية بقوة السلاح منذ زمن جورج بوش الابن والمستمر حتى اليوم جاء بنتائج كارثية حولت دولًا مثل سوريا والعراق وليبيا إلى دول تنتشر فيها الفوضى وتعاني من الإرهابيين وتسببت بدمارها بعد أن كانت دولًا مستقرة وآمنة.
التدخل الأميركي في سياسات الدول وتهديد أمنها لم يتوقف عند دول الشرق الأوسط، بل قامت الولايات المتحدة على لسان جورج بوش الابن، بتهديد روسيا بشكل مباشر عندما اقترح خلال حضور الرئيس فلاديمير بوتين قمة الناتو في العام 2008، ضم جورجيا وأوكرانيا إلى حلف الناتو ولم يقترح ضم روسيا، مع أن روسيا كانت في تلك المرحلة التاريخية تتقرب من أوروبا الغربية، مما أدى إلى دق ناقوس الخطر الغربي القادم إلى روسيا عبر القفازات المخملية. لذا يرى ميرشماير ان هناك حتمية لتراجع أميركا نحو تطبيق السياسة الواقعية، والتي ترتكز بحسب "مبدأ مونرو" على حماية نطاق الدولة من أي تهديد أو سيطرة خارجية، وقد خالفته بشكل مباشر عندما أيقظت القيصر الروسي من سباته، ولا يقصد هنا بوتين فقط، بل تاريخًا من التحدي لروسيا من قبل أوروبا من أجل السيطرة عليها.
ويعتبر ميرشماير أن قوة الولايات المتحدة كدولة أحادية عظمى قد انتهت، وهذا أمر بديهي مع صعود القوتين الصينية والروسية. ولكن المهم فيما يقوله أنه ليس هناك فرق كبير ما بين الولايات المتحدة والصين، بل باتت المسافة ما بين القوتين متقاربتين جداً. ولكن الجديد والملفت بكلامه، أننا اليوم نعيش زمن الثنائيات القطبية، بمعنى أنه ليس لدينا ثنائية قطبية واحدة، بل لدينا حتى اليوم ثنائيتان قطبيتان، الأولى هي أميركا ــ الصين، والثنائية الثانية هي أميركا ــ روسيا. ومن هنا يمكننا أن نفهم رغبة الولايات المتحدة بضم أوكرانيا للناتو في مواجهة روسيا، ويمكننا أن نفهم الغاية من المؤتمر ذي الطابع العسكري، الذي عقد في الهند في 26-27 الشهر الماضي والذي أرادت منه الولايات المتحدة على لسان قائد الجيش الأميركي، راندي جورج، بحث التهديدات في المحيطين الهندي والهادئ مع تصاعد نفوذ الصين فيهما. بينما تراقب الصين هكذا اجتماعات بعين مرتابة. مع العلم أن الصين هددت أن توسع حلف الأطلسي في منطقة المحيط الهادئ وآسيا قد يثير نزاعاً مسلحاً، بالتأكيد. ولكن بما أن النزاع سينحصر بالقوى المحلية كما في أوكرانيا، فالولايات المتحدة ستعتبر نفسها بعيدة عن التأثر في داخل حدودها.
اذاً لدينا اليوم ثلاث قوى قطبية: واحدة كبرى قديمة وهي اميركا، واثنتان صاعدتان بقوة وهما الصين وروسيا، وبالتالي فإن صعود هاتين القوتين سيحتم على الولايات المتحدة الانكفاء من أجل تحصين قوتها الداخلية، وبالتالي العودة إلى اعتماد السياسة الواقعية والتي تتحدد بعناصر الحدود الرسمية وقيادة الدولة والقوة الأمنية الحامية، وهي عادة ما تكون الجيش. وعلينا ان نفهم أن القوى الصاعدة ستقوم بحماية أمن مجالها الإقليمي بكل ما أوتيت من قوة وقد يؤدي ذلك إما إلى حرب ضروس ما بين أميركا والصين، وأميركا وروسيا، وإما إلى تراجع أميركي لحماية مجالها الإقليمي، وابتداءً من هذه النقطة بالذات علينا إعادة القراءة في زيارة الرئيس السوري بشار الأسد للصين، وفي المقابل قراءة الاهتمام بدول صغرى في المحيطين الهندي والهادئ لخدمة المصالح الأميركية كما فيتنام والفيلبين، لقد أصبحت الأمور أكثر إثارة للاهتمام!
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024