آراء وتحليلات
البحرين بين فِصام الملك وتوازن الشعب
لطيفة الحسيني
"أسمع كلامك أصدقك أشوف أمورك أستعجب". هذا هو الحال مع كلّ من يستِمع ويقرأ مواقف الملك البحريني حمد بن عيسى هذه الأيام. في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، استيقظ "جلالة المُعظّم" على خبر عملية "طوفان الأقصى"، فقرّر الإيعاز للخارجية بإدانتها والوقوف الى جانب الصهاينة، مُعزّيةً بقتلاهم. بعد أسبوع من المجازر الدموية بحقّ الشعب الفلسطيني، استُبدل الاستنكار بإطلاق حملة لإغاثة غزة.
بهذه البساطة، انتقل "طويل العمر" من ضفّة الى ضفّة. وكما هي العادة مع كلّ أمرٍ سامٍ، مشى وراءه ولي العهد وقائد الحرس الملكي وحاشيةُ السلطة من شخصيات ونوابٍ ووسائل إعلام وذباب الكتروني، لكن مهلًا! كيف يستطيع كلّ ذي عقلٍ ومنطقٍ أن يتقبّل مشهد هذا التضامن الفائض في الكلام وحملات الدعم المالي، إنْ صدَقَت، مع توجّهات الدولة الرسمية واتفاقاتها السياسية والأمنية مع كيان العدو؟ المسألة تدعو فعلًا الى السخرية. كلّ هذا سريالي يحملُ من يُتابعُ الأحداثَ في البحرين الى التهكّم، وكأننّا في مسرحية دائمة لا تنتهي.
الانفصامُ هو الذي يحكم أصغر البلدان الخليجية والعربية اليوم. يقول منطق الملك: اصطففنا مع "اسرائيل" ضدّ حماس. شرّعنا العلاقات معها وطبّعنا كلّ ما بيننا. افتتحنا سفارة للاحتلال بعد 3 سنوات من توقيع المعاهدة، ولن نمنع تهويد بعض أحياء المنامة. جعلنا للموساد موطئ قدم على أراضينا. فتحنا الأبواب للاسرائيليين للقدوم والعمل لدينا. وفي مقابل احتضان أعداء الأمس - حلفاء اليوم، ها نحن نريد إغاثة غزة. نعرض في وسائل إعلامنا أرقامًا لتبرّعات مُقدّمة من أعلى الهرم في المملكة - لا أحد يعرف ما اذا كانت ستصل الى وُجهتها الفعلية -، نُغرِقُ الرأي العام بمعزوفة "فلسطين قضيّتنا الكبرى"، نوعز الى مجلس النواب بالتضامن أيضًا مع الشعب الفلسطيني، نسمح للمظاهرات المُتعاطفة مع أبناء غزة بالخروج ثمّ نحظرها في الجامعات الوطنية ونُرسل عناصرنا لمحو رسمٍ غرافيكي يؤازر فلسطين (في كرانة - إحدى قرى المحافظة الشمالية)، حتى يظن البعض لوهلة أن الملك سيظهر بخطاب إعلان "الصلاة في القدس"!
هل يستوي هذا التناقض بين السياسات الرسمية والأقوال التي ليس عليها "جُمرك"؟! السواد الأعظم من المُراقبين يطرحون سؤالًا واحدًا: إن كان الملك يعتصر ألمًا على أطفال غزة، لماذا لم يُلغِ أو يُجمّد اتفاقية التطبيع الى الآن؟ لماذا لم يطرد سفير الاحتلال قبل سحبه من قبل الكيان؟ ولماذا لم يُفكّر بإغلاق هذا "الوكر"؟
ماذا عن الشعب؟ لا ثباتَ يعلو فوق ثباتِ البحرينيين إزاء القضية الفلسطينية. لم يهدؤوا منذ اليوم الأول لـ"طوفان الأقصى" والعدوان على قطاع غزة. فزعةٌ حقيقيةٌ تجلّت بينهم لإبداء كلّ مشاعر المواساة والنُصرة والعون ليُبرهنوا أنهم لم يَحيدوا لحظةً عن هذا الخطّ مهما بلغ عتوّ الأنظمة، رافضين خيانة القضية ومُهادنة المحتلّ.
مسيرات آلاف المواطنين من الأطياف كافة والتيارات الإسلامية وغير الإسلامية، سنّة وشيعة، ترجمت خياراتِهم القاطعة تجاه القدس والأقصى. على امتدادِ أيام العدوان، عبّروا في مُختلف المناطق والقرى عن تأييدهم المُطلق للمقاومة الفلسطينية في مواجهة الجيش الصهيوني وآلة القتل. مواطنون، أطفال، مُسنّون، نُخب، علماء، الكلّ أجمع على ذلك. المرجع الكبير آية الله الشيخ عيسى قاسم الذي يعتبره البحرينيون "والدهم العطوف" أصدر 3 بيانات خطّها بيده لمواكبة الأحداث والجريمة المستمرة، والتقى ممثّلي حركتيْ "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، مُحدّدًا الخطوط العريضة للحِراك البحريني الداعم لفلسطين: لا احترام للتطبيع أو مُجاملة من يُنادي به.
على الموجة نفسها كان يسير أكثر من 270 عالمَ دين، أدانوا المجازر وطالبوا بقطع العلاقات مع العدو. مجالس المحرق أيّدت خيار المقاومة الفلسطينية. كذلك نظّمت جمعية مناصرة فلسطين وقفات احتجاجية في عددٍ من المناطق، فيما نشطت اعتصامات وندوات المبادرة الوطنية البحرينية لمناهضة التطبيع مع العدو لدعم المقاومة والشعب الفلسطيني.
لم يُغيّر الشعب لغتَه. خياراتُه ومطالبُه على حالها. يُردّدها على الدوام، لكن أُذني الملك لا تسمعانها. قد يُطرب لحفل "وناسة" في البلد، لكنّ أصوات الداعين الى وقف تطبيعه يعتبرها نعيقًا وصخبًا غير مُمتعٍ. الفجوة تكبر بينه وبين مواطنيه. كلّ يغرّد في مكان. لا مُشتركات سياسية داخلية أو قومية بين الحاكم والشعب. هو مقتنعٌ بأنّ إطاعة قراراته وفُصامه فرضٌ. يقول علم النفس أن لا شفاء من مرض الفصام إلّا بالعلاج النفسي، فهل يرضى العليل بذلك وينجو من هو مأسور به؟
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024