آراء وتحليلات
استدارة أفعى الهيدرا
د. لينه بلاغي
بعد نظرية "الفوضى" التي تتميز بعدم وضوح النتائج وضمانها، استناداً الى ردود افعال اللاعبين عموما، يبدو اننا دخلنا عصر "الافلاس الفكري "، ليس فقط على مستوى النظرية الاستراتيجية التي تتحكم بالدفائن النفسية لمختلف القوى الكبرى، من " العالم القرية الى العولمة، الى السيطرة على العالم" والتي تختصر حاليا بشكلها الحضاري بـ "ادارة العالم" بمختلف مستوياته، الاقتصادية والسياسية وصولا الى الاجتماعية والدينية، وانما الافلاس يطال ايضا الاليات العملية او "التكتيك" بحيث تشير جملة من المعطيات والدلائل الى ان الادارة الامريكية الحالية ومن يقف خلفها، تستدعي من ادراج السيناريوهات السياسية الحضارية، الماضية، مقدمات الارتداد على العالم، وترتكز على إعادة توكيد "الانا" و"الآخر" بصيغة معدلة عن تصريحات الرئيس الامريكي الاسبق بوش الابن "من ليس معنا فهو ضدنا" والحروب "الصليبية".
يختصر صامويل هانتجتون الصراع الحضاري المرتقب بجملته "صراع القرن العشرين بين الديموقراطية الليبرالية والماركسية اللينينة ليس سوى ظاهرة سطحية وزائلة، اذا ما قورن بعلاقة الصراع المستمر والعميق بين الاسلام والمسيحية ..."، وان" الاسلام هو الحضارة الوحيدة التي جعلت بقاء الغرب موضع شك، وقد فعل ذلك مرتين على الاقل".
مؤشران وقعا مؤخرا، وان تباعدا جغرافيا، الا انهما يخدمان هدفا واحد، اشار له نائب وزير الدفاع السريلانكي "التحقيقات الأولية" أشارت إلى أن التفجيرات "كانت رداً على الهجمات الارهابية على مسجدي كرايست تشيرش في نيوزيلندا في مارس/ آذار"، واعلان تنظيم الدولة الاسلامية اليتيم والمجهول مسؤوليته واستهدافه "مواطني التحالف الصليبي والمسيحيين في سريلانكا"، تبع ذلك خطوات ليس اقلها منع الحجاب في سريلانكا، ما من شانه ان يستفز الاقلية المسلمة هناك.
هذا الاخراج المسرحي المتكرر والهزيل يستمد قوته وادواته من ثقافة تجهيل الشعوب والامم المستمرة، والتي دللت عليها مجمل الانتخابات الديموقراطية! التي خيضت في العالم، في السنوات القليلة الماضية، او ما عرفت بـ"الشعبوية" المعادلة وفق الكثير من المعطيات "للتطرف" والمعبرة عن انقسامات عمودية في المجتمعات انطلاقا من فهم مشوه ومقصود "لفكرة الحضارات" تستند الى اسوأ التفاسير المقدمة دينيا لها، وقد تسارعت وتيرتها في السنوات القليلة الماضية نتيجة اتساع مفاعيل وآثار سياسات عولمة المعلومات مرفقة بما يمكن تسميته بـ "عولمة الكذب" والتعصب، على مختلف المستويات.
ان الشعوب كما الدول والاحزاب والجماعات، تستجيب في معظم الاحيان لما تتصوره عن الواقع وليس ما يقدمه الواقع من دعوة الى التفكير والتحليل، ولعل هذا الفهم هو مربط الخيل للصراعات السابقة واللاحقة، وهو التصور الذي يقود العديد من الشعوب في الغرب قبل الشرق، واذا انعقدت نطفة التعصب الراهن في ثمانينيات القرن الماضي، فانها بدأت مخاضها العملي مطلع القرن الراهن، انطلاقا من سيناريو 11 أيلول/ سبتمبر مرورا بافغانستان والعراق، و2005 ـ 2006 لبنان والمنطقة، وصولا الى ما عرف بـ"الربيع العربي" الى يومنا هذا.
في الفكر الكيسنجري، المغيّب ظاهريا، والحاضر بقوة في بنات افكار الادارة الامريكية الحالية ببعديها المسيحي ـ الصهيوني، تُختصر القوى الرئيسية في العالم بـ " امريكا، اوروبا، روسيا، اليابان، الصين" وربما "الهند" مع "تأثير ما" لبعض الدول الاسلامية نتيجة موقعها الاستراتيجي ودورها في مجال الطاقة، بحيث يتم فيه تغييب الدور الاسلامي سياسيا وحضاريا، وهو ما يتضح اننا نشهد ارهاصاته حاليا.
ان التحشيد للجماعات الاسلامية في مختلف انحاء العالم، بدءا من شرق آسيا، و"الضغوط" الصينية على الجماعات الاسلامية، مرورا بالحملات الاعلامية الضخمة، والتي سكتت فجأة! فيما يتعلق بأزمة ميانمار، والاضطهاد "الاعلامي حاليا" الذي يتعرض له مسلمون في العالم، على ما يبدو ليس الا استثارة لعواطف الشعوب المسلمة، على غرار مكافحة الشيوعية في أفغانستان سابقاً، تمهيدا الى سوقها باتجاهات تخدم المشروع الغربي، ليس آخرها ولن يكون، الهجوم على المسجدين في كرايست تشيرش في نيوزيلندا، والتحريض المنبعث من رسائل المهاجم، والذي أعاد الى الذاكرة تصريحات سابقة للرئيس الامريكي دونالد ترمب "الاسلام يكرهنا.. هناك حقد عميق".
ان الصراع الطبقي الذي يتركه واقع الراسمالية المتوحشة ولا سيما في تاريخنا الراهن، الذي يشهد غضبا شبه ظاهر، الا انه مرتقب ودولي، من قبل الشعوب على حكوماتها، المرتهنة بطريقة او باخرى، الى نظام اقتصادي ـ مالي دولي، عزز الفوارق بين الشعوب وقلة قليلة من العائلات المتوحشة الثراء، هو في امس الحاجة الى "علاقة " من شأنها حرف انظار الشعوب والدول الى عدو مفتعل، تحت عناوين مختلفة، قد يكون اشدها جاذبية، في اجواء الخوف والفقر، العنوان الديني، سيما وانه في الحروب وفق هانتنجتون واخرين، تذوي الهويات متعددة العناصر " وتصبح الهوية الاكثر معنى بالنسبة للصراع هي السائدة. وغالبا ما تتحدد هذه الهوية دائما بالدين"، وان لم يكن متدينا، وهذا ما يطلق عليه لاحقا حروب "التقسيم الحضاري" الذي قد ينطلق من الاحياء وصولا الى القوى الكبرى، استنادا لفكرة دعم "ذوي القربى" سيما في ظل الاعتقاد بأن البعد الحضاري بين الامم والشعوب أكبر وأعمق واطول عمرا من الدول والحكومات.
من الواضح ان البعد الحضاري، المطعم بالبعد الديني، من وجهة نظر الادارة الامريكية ومن خلفها، لديه القدرة على ان يتحول الى كرة ثلج لديها القدرة على عبور الحدود الجغرافية، وهذا التوجه فيه الكثير من الواقعية، ولا سيما حاليا في ظل التفلت او الفوضى التي تطال النظام الدولي عموما، وما دونه من الأنظمة المختلفة من سياسية واجتماعية ودينية وثقافية... وفي ظل تشكل شريحة واسعة عمرياً في مختلف انحاء العالم، سطحية الثقافة، بعيدة نسبيا عن مفهوم الحروب وكوارثها، كما يعبر احد ابرز داعمي ترامب في حملته الانتخابية ومستشاره سابقا، ستيف بانون، في فيلمه الوثائقي "الجيل صفر"، وكيفية نزوع هذه الطبقة من الاجيال الضائعة الى الحرب، التي قد تصل في حالات متعددة، والتاريخ يتحدث عنها، الى محاولات الابادة الجماعية.
وفيما لا يتوقعون حروباً بينية، اي بين الدول الغربية ذات القيم الحضارية المشتركة، فانهم يعتبرون ان آسيا هي عقدة الصراعات الحضارية، كونها على اتصال وتضم الحضارات اليابانية والصينية والارثوذكسية والبوذية والاسلامية والمسيحية الغربية والهندوسية. ولا ننسى التفريعات ما دون الدولية فهناك الصراعات الطائفية والعرقية.
في مواجهة التحديات التي من شأنها ان تهدد مستقبل القوة الكبرى، لا بد وفق هنتنجتون واخرين من تحقيق "تكامل سياسي واقتصادي وعسكري" ودمج دول اوروبا قاطبة بـ" الناتو" و"تشجيع تغريب امريكا اللاتينية"، وكبح القوة العسكرية التقليدية وغير التقليدية للدول الاسلامية والصين، وقبول روسيا "كمركز للارثوذوكسية وقوة اقليمية رئيسية ذات مصالح مشروعة في امن حدودها الجنوبية."
ـ في التوجيه الاول، من الواضح ان الولايات المتحدة الامريكية تعمل بشكل حثيث على المحافظة على تكاملها او قوتها الاقتصادية. وغني عن الذكر مجمل سياسات الرئيس الامريكي الحالي، التي عمدت الى خلق نوع من "الرعب الاقتصادي والمالي" المستند الى آلة عسكرية موزعة في مختلف انحاء العالم، لا تزال تعمل على معالجة نقاط ضعفها في ارجاء العالم المتعلقة بطرق الامداد العسكري وغير العسكري، لقواعدها في ارجاء العالم وقواعد الناتو وتحديدا على ابواب روسيا والصين والشرق الاوسط.
ـ اما تشجيع تغريب امريكا اللاتينية، فمن الواضح ان اعادة هندسة امريكا اللاتينية لا تزال جارية على قدم وساق، وما الازمة الفنزولية والحصار الا احد وجوهها، سبقها انتزاع ولاء البرازيل، احدى دعائم دول البريكس BRICS ، من المنظومة الاقتصادية لصالح الولايات المتحدة الامريكية، ومن خلفها، عبرت عنها السياسات المعتمدة لرئيسها اليميني الجديد.
ـ واما فيما يتعلق بكبح القوة العسكرية التقليدية وغير التقليدية الاسلامية وتلك الصينية فهذه على علاقة شبه مباشرة بالصراع المرتقب في المنطقة، ان على مستوى ازمات تطال الكنيسة الارثوذكسية خصوصا والمسيحية عموما في المنطقة او على مستوى مواجهات تطال التوسع الصيني الاقتصادي من منطلق ديني.
• على المستوى الاقليمي:
لم تكن لحظة الاعلان الامريكي على لسان ترامب الانسحاب من سوريا، ومسارعة بعض الدول العربية الى اعادة التواصل مع العاصمة دمشق، وما تلاها من خطوات اقليمية ودولية، ليس آخرها زيارة وزير الدفاع الامريكي بومبيو الى بيروت، في محاولة لشق الصف اللبناني، وانقلابا السودان والجزائر اللذين قد تليهما المغرب ودول عربية اخرى، ومحاولة التلاعب بالرغبات التركية في سوريا.. الا محاولة امريكية بامتياز لاعادة رسم جزء من مشهدية الاعوام ما بين 2005 و 2010، والتي مهدت لسقوط جملة من الدول العربية والاسلامية في دوامه الفوضى والعنف، وفتح المجال امام الجماعات الاسلامية المتطرفة التي ساهمت، عامدة كانت او لم تكن، بفتح ابواب المنطقة والعالم الاسلامي على مجمل الرياح الامريكية ـ الاسرائيلية، ومشاريع الولايات المتحدة و"اسرائيل" الكبرى، وتوقفت مرحليا بعد المقاومة الواسعة على مختلف المستويات والتدخل الروسي وخط الممانعه في مواجهة جزء من مشروع اشتدت تعقيداته في سوريا.
ان احدى مميزات القوى البحرية (الهيدرا) هي قدرتها على المناورة والمرونة، في التكتيكات، من الأمنية وصولا الى الاعلامية، بسرعة تتناسب وعصرنا الحالي، وتمتلك الكثير من مفاتيح العصر التكنولوجية، في حين تتميز القوى البرية او شبه المحاصرة باليابسة او القارية، كروسيا مثلا، بثقل الحركة نظرا لكونها تتحرك ويتحرك معها عمقها التاريخي والفكري وتقاليدها السياسية وثباتها النسبي الى جانب حساباتها الناجمة عن موقعها الحساس على المستوى الاستراتيجي.
ففي الوقت الذي اعلن فيه الرئيس الامريكي دونالد ترامب الانسحاب من سوريا بطريقته "الخاصة" الممهورة بالخصائص الدينامكية للقوى البحرية، وتوالت الردود المرتقبة والمتوقعة من اللاعبين الدوليين والاقليميين، امريكيا، على هذا الاعلان، بدأت عملية الارتداد الامريكي الى المنطقة، وكان اشبه بارتداد الافعى على خصمها، بعد تدارك نقاط ضعفها، عبر اعادة تشكيل موازين القوى او بشكل ادق عبر اعادة خلطها.
لم تمض ساعات على الاعلان حتى تحرك التركي باتجاه الشمال السوري بعد غزل امريكي، ضاربا بثقة متغيرات المنطقة السابقة التي قادته الى المحور الروسي ـ الايراني، الامر الذي استدعى تدخلا ايرانيا ـ روسيا للجم الفرس التركي نسبيا. ولعل ما برر التشكيك الايراني ـ الروسي بالخطوة الامريكية في سوريا هو الاعلان المباشر من جهة عن اعادة التموضع في العراق، والمؤشر الاخر الا وهو شبه الصمت لاصحاب الشأن الحقيقيين، اي اصحاب رؤوس الاموال والمؤسسة العسكرية، خصوصا اذا ما اخذنا بعين الاعتبار ان مناطق النزاعات في العالم هي اسواق عملية وعلمية لانتاجهم وثرواتهم، وهكذا اعلان وانسحاب من شانه ان يترك اثاراً ضخمة ليس فقط على من ذكر وانما على الاقتصاد الامريكي برمته.
على المستوى العربي، جاء الاداء بالتناغم مع محاولات بث تطمينات اقليمية غير واقعية، من خلال الانفتاح المفاجئ على سوريا سيما من قبل الامارات والتي بررها وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية أنور قرقاش في حينه "إن قرار بلاده .. يأتي بعد قراءة متأنية للتطورات، ووليد قناعة بأن المرحلة القادمة تتطلب الحضور والتواصل العربي مع الملف السوري". لكن عن اي حضور يتحدث؟ حضور مشابه لحضور ما قبل 2010 !. تعهدت المملكة العربية السعودية على ما يبدو بدفع مترتبات امريكا في اعادة اعمار سوريا كما عبر عن ذلك ترامب بوضوح، الا ان مؤشرا اخر برز لاحقا من قمة بيروت الاقتصادية دلل على ان المستجدات في هذه المرحلة من وجهة نظر سعودية، انما هي مرحلية، لا تستدعي انفتاحا لبنانيا على سوريا على غرار ظاهر الامور، اكده تغييب سوريا عن القمة العربية لاحقا، وهذا تناقض!.
• استعادة الدور السعودي
بات من اوضح الواضحات ان لا نية حالية امريكية ـ اسرائيلية بالتخلي عن المملكة العربية السعودية. ولعل ابرز العوامل لضمان استمرارية هذا النظام مسألتان:
الاولى: ان للسعودية دورا مرتقبا واساسيا في عملية تحريك متفرع من متفرعات الصراع الاقليمي، الا وهو الصراع السني ـ الشيعي، بما يصب في خدمة المشروع الامريكي ـ الصهيوني في المنطقة، والذي تعبر عنه اتجاهات متعددة في حكومة دونالد ترامب ونتنياهو، وياتي في مقدمه هذا المخطط استمرار محاصرة ايران في المنطقة ايديولوجيا وثقافيا وعسكريا، عبر تأجيج المخاوف من التوسع الايراني.
الثانية: قدرة المملكة العربية السعودية، من خلال اموال النفط والطاقة والموقع الديني، نسبة الى وجود اقدس المقدسات الاسلامية على اراضيها، على ممارسة دور اساسي في تأليب الرأي العام الاسلامي في اي اتجاه تقتضيه المصالح الامريكية ـ الاسرائلية في المنطقة والعالم، سيما وأن من بين العوامل الاساسية التي ساهمت في تدمير الاتحاد السوفياتي في افغانستان كان المال السعودي، والعديد الاسلامي الذي استطاعت ان تجيشه خدمة للمشروع الامريكي في المنطقة تحت ذريعة مواجهة " الكفار" على الاراضي الاسلامية.
من هنا يمكن قراءة الدور السعودي، فعلى خلاف ما سوق له البعض من ان الجولة هدفها إعادة تعويم ولي العهد محمد بن سلمان بعد قضية جمال خاشقجي، كان لا بد من انفتاح على الشرق سعيا لتأمين متطلبات الناتو العربي، في مواجهة ايران، والمرتكز على الجند الباكستاني، والدور الهندي، المرتبط بفاعلية بالاجندة الاسرائيلية، ورغبة بالحياد الصيني، لخصها حمد الشهري، المستشار الاقتصادي السعودي بأن" مصالح الدول مقدمة على أي قرار أيديولوجي. ومعروف في الدبلوماسية أن تمكين العلاقة الاقتصادية يؤدي إلى حماية المصالح للطرفين". وعلى الرغم من ان الطريق ليست معبدة بعد بالكامل للرؤية الامريكية باتجاه غلق ابواب ايران الاقتصادية مع شرق ووسط وجنوب آسيا، الا انه يبقى سيناريو لا بد من اخذه بالحسبان، ولا سيما بالتركيز على الدور الهندي الحالي والذي يعتبر رافعة من روافع السياسات الاسرائيلية الى تلك المنطقة.
وكانت الزيارات السعودية قد اتت بالتزامن نسبيا مع تحركات دولية ليست المملكة او المعنيون كايران ببعيدين عن اجوائها، اذ سبقها مؤتمر وارسو الذي جمع المسلمين العرب مع "اسرائيل" في مواجهة ايران والحركات الجهادية، بتمثيل امريكي واسع شارك فيه صقور التطرف، الامريكي ـ الاسرائيلي، وزير الخارجية مايك بومبيو ونائب الرئيس مايك بينس وجاريد كوشنير، بالتزامن، نسبيا، مع مؤتمر ميونخ الذي لم يغب عن ابعاده الموضوع الايراني بشقه النووي الذي القى بظلاله على العلاقات ما بين الدول الاوروبية، وبينها وبين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة اخرى.
من الواضح ان سرعة وديناميكية الحراكات التي تطال منطقة الشرق الاوسط، تسهم بشكل اساسي في اضفاء نوع من التشتيت يطال عمليات التحليل ليس اخرها وضع الحرس الثوري الايراني على لائحة الارهاب، ما يستوجب التوقف مرارا وتكرارا عند الاستراتيجيات الامريكية ـ الاسرائيلية في المنطقة القاضية بأنه "لا بد من نظام اقليمي بزعامة اسرائيلية مطلقة على اوسع قاعدة جغرافية" ونظرا لكون "العامل الديموغرافي لا يساعد المشروع الامريكي ـ الاسرائيلي، فلا بد من تطويع المنطقة عبر اعادة ارساء نمط من الانظمة السياسية والدينية بما يتناسب مع هذه الاهداف ". من هنا ، يبدو ان هناك محاولات لتلافي الثغرات التي وجدت بالنظام السابق او مشروع الشرق الاوسط 2005 ـ 2006 وتلاه مشروع 2010 ـ 2011 " الربيع العربي" على غرار متغيرات السودان والجزائر.
ـ ابرز نقاط الضعف في المخططات السابقة الذكر، مسالتان، الاولى تتلخص بأن المخطط القاضي بإلهاء المسلمين في المنطقة ببعضهم بعضا لم يكن على مستوى التوقعات والمخططات، بحيث استمرت عمليات ممانعة فكرة نشوء " الصراع السني ـ الشيعي" الكبير، نسبيا، في المنطقة، والذي يمثل استمرارا لسياسات اسرائيلية ـ امريكية سابقة على عهد ترامب عبرت عنها بوضوح رمزية اعدام "الشيخ النمر"، وما تلاها من ردود تم ضبطها اقليميا، وها هي تتكرر مع الاعدامات التي طالت ما يقارب 32 شيعيا من بينهم رجل دين ايضاً، حيث يمكن تلمس نوع من النمط، او التتابعية، لاعدام الشيخ النمر، وانهما، إنما جاءا بضوء اخضر امريكي ـ اسرائيلي.
وبالمنطق عينه، يمكن تفسير مجمل التسريبات والتضييق الاقتصادي والزيارة الامريكية الى لبنان (بومبيو)، لا سيما اذا ما استرجعنا الفكرة الجوهرية التي يمثلها لبنان بعنوانه نموذجا ومؤشرا حيويا لاوضاع المنطقة ومجرياتها، والهادفة الى جر الفئات اللبنانية على خلفيات طائفية في مرحلة ما الى مواجهات داخلية.
في الوقت الذي يبدو، اقله في الظاهر، ان العالم العربي والاسلامي قد بدأ يتخطى بعضا من فصول صراع الحضارات الاولى مع الاعلان عما يشبه انتهاء "داعش" واخواتها ! في العراق والشام، يبدو انه لا بد من التحضر للخطوات الثانية من المشروع والتي تقتضي صراعا حثيثا بين الارثوذكسية الاسيوية خصوصا والمسيحية عموما في مواجهة العالم الاسلامي، ما يعني ان الطريق الى حرب مباشرة يكون احد اطرافها امريكا و"اسرائيل"، قد استبعدت نسبيا، على امل ما باشعال الشرق الاوسط وآسيا بحروب بينية تكون فيها بمنأى عن تبعاتها المباشرة وخسائرها المرتقبة.
رغم ان خيار الحرب المباشرة مع امريكا و"اسرائيل" لا يجب ان يرفع عن الطاولة، الا انه من الواضح استنادا الى المؤشرات، انه لا يزال في جعبة الهيدرا الامريكية برأسها الاساسي الاسرائيلي، ما تحمله للمنطقة والعالم الاسلامي.
من هنا لا بد من التاكيد على ان هناك من يسعى الى الضغط على ازرار الصراعات، من الشرق الاقصى للقارة الاسيوية وصولا حتى غربها، وان العامل المشترك في الصراعات المرتقبة هو اعادة تنشيط ماكينة الاصولية والتطرف على ضفتي العالم الاسلامي والمسيحي، وبقية الفضاءات الجغرافية والحضرية. لكن الملاحظ ان مجمل الصراعات سيكون احد اطرافها من المسلمين، وما حادثتا كنائس سريلانكا ومسجدي نيوزيلندا وطريقة الاخراج، الا مقدمة فجة لهذا المخطط القبيح، الذي يطل براسه مجددا، وما التاكيد الامريكي خلال مؤتمر ميونخ الذي عقد منتصف شباط الماضي، على "توسيع الحلف ضد داعش"، بما يتناقض مع اعلان "انتهاء داعش"، الا مؤشر على هذا المخطط.
تقتضي فكرة هانتجتون بتضافر جهود "ذوي القربى على المستوى الحضاري والديني" في العالم المسيحي لمواجهة "التطرف الاسلامي" عموما. وتجتهد الادارة الامريكية الحالية في جمع صفوف الدول الاوروبية والمنضوية تحت منظومة الناتو "للمساعدة في سوريا" ما بعد "داعش"، وهو الامر الذي يسبب قلقا لدى العديد من هذه الدول في ظل عدم اتضاح الاستراتيجية الترامبية في المنطقة، وعدم التعهد الامريكي بالبند الخامس من ميثاق حلف الناتو، بالدفاع عن اي دولة عضو في حال تعرضها للهجوم، سيما انها ستكون على تماس مباشر مع أي سيناريو من سيناريوهات الصراعات الطويلة القادمة، وطبعا الى جانب روسيا المعنية، جغرافيا وديموغرافيا واقتصاديا، بالاجابة عن العديد من الاسئلة حول اين وكيف توزعت المجموعات "الجهادية" تحت اي مسميات كانت، جغرافياً، ومدى تماسها مع مسرح العمليات الروسية في المنطقة وعلى الخواصر الروسية في حال كتب لهذا المخطط الحياة.
أما بالنسبة لتركيا، وهي ايضا عضو في الناتو، فإن الادارة الامريكية ستبقيها في مباحثات مفتوحة حول شمال سوريا ومستقبله، كوعد العضوية في جنة الاتحاد الاوروبي، بغية استخدام ورقة الاسلاميين المرتبطين بتركيا لخدمة المشروع عينه، وقد بادر أردوغان بعد هجوم كريست تشرش إلى إطلاق تصريح يخدم في تبعاته سيناريو الصراع الحضاري.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024