آراء وتحليلات
الجربوع الأزرق.. جريمة النسيان
أحمد فؤاد
يخطئ الكثيرون حين يحاولون تفسير "معركة طوفان الأقصى" منزوعة جبرًا من سياق تاريخنا، التاريخ العربي والإسلامي تحديدًا، يخطئون أكثر حين يتصورونها عملية مقاومة "أكبر قليلًا"، من كل العمليات التي سبقتها، أو أنها استثناء من القاعدة القائمة طول التاريخ الإنساني –المعروف لنا على الأقل- من معارك الحق والباطل، معارك لا يوجد فيها طريق ثالث، نصر أو شهادة، حروب لا تعرف الهزيمة، وهي بخيار مقاومتها ترفضها ابتداء، وتلغيها بدم الفداء الغالي من قاموس الاحتمالات.
مشكلة أمتنا الأكبر، أو أزمتها المريرة، هي أن نخبها ترى في حرب الاستقلال الفلسطينية شيئًا مغايرًا لطبيعة شعوبنا وشخصيتها، وعلى أصالة فكرة المقاومة فيها وتجذرها في وجدانها ووعيها، وأنها –هذه النخب- ترى في الغرب قِبلة، لا عدو، وترى فيه خصمًا مؤكدًا لكن حكمًا نطلب عدله في الوقت ذاته، مشكلتنا أن نردد أن فلسطين كربلاء عصرنا، وأن "كل شهر محرم، كل أرض كربلاء، وكل يوم كربلاء"، كربلاء بمعنى الاختبار، ثم نسقط جميعًا –إلا قلة- أمام هذا الاختبار.
لم يكن غريبًا أن تكون خطابات آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي والأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله وقائد حركة أنصار الله سماحة السيد عبد الملك الحوثي، كلها تنقل صورة المعركة الحقيقية كما هي، ثم لا نسمعها، أو لا نفهمها، الحرب هي حرب بين الولايات المتحدة وشعوبنا العربية، وهي حرب ليس فيها موقف بين- بين، هي معركة الحق كله مع الباطل كله، وما فلسطين سوى الذبيح الأول في القصة المتجددة، والكيان هنا هو الناب أو المخلب المتوحش الذي يقوم بمهمته، التي أُوجد لأدائها.
بعد 48 يومًا من حرب إبادة مارسها العدو على شعبنا، صورتها هي القتل العشوائي الواسع، وتدمير كل إمكانيات الحياة، وتحطيم كل مقدس وغالٍ، بهدف وحيد هو "كسر إرادته" كما تعلمه بالضبط من تجربة سادته في واشنطن خلال الحرب العالمية الثانية، وجرائمه بالذات في حرق طوكيو ودريسدن وكولونيا وبرلين، وفتح بوابات عصر الجحيم الذري فوق هيروشيما وناغازاكي، ومنح أعمال استهداف وقتل المدنيين الموصومة بأنها جرائم حرب اسم أكثر لطفًا للدعاية هو: "القصف الاستراتيجي".
بعد انهيار الهدنة الإنسانية، عاد الكيان إلى استكمال ما بدأه منذ 7 أكتوبر، لا بنك أهداف لدى طائراته ومدفعيته ودباباته وقذائفه إلا المساجد والبيوت والمستشفيات، محطات المياه والكهرباء، بشكل يترجم بصدق أنها حرب إبادة كاملة يريد فيها نتنياهو وغالانت كسر هذا الشعب البطل، وإيصال رسالة مختصرة عبر وسائل إعلامنا –نحن- بأن ثمن المقاومة هو التدمير والقتل والمزيد منه.
لكن سؤال الساعة الحقيقي، مع عظم ما يقدمه الشعب الفلسطيني في غزة بالذات وفصائله المقاومة، من تضحيات ومن صمود ومن صبر، هل تنتصر غزة على أعدائها؟
لدينا تجربة منسية في نضالنا العربي والإسلامي، فريدة وفائقة الدلالة، هي حرب التحرير الجزائرية الطويلة المريرة، بدأ الاحتلال الفرنسي للجزائر في العام 1830، واستمر لمدة 132 عامًا، ولتثبيت وجود فرنسا في البلد العربي المسلم، فقد قامت بجرائم لا حصر لها في حق المواطنين وأصحاب البلد، وأيضًا استقدمت "المستوطنين" في تشابه ومفارقة هائلة، ومنحتهم الأراضي والحماية والدعم ليكونوا هم أصحاب البلد الجدد.
طوال فترة احتلال فرنسا للجزائر، كانت تمارس في حق شعبه أبشع ما عرف من جرائم في حق الإنسان، وتحت ستار تعصب ديني عقائدي صليبي مقيت، يعتبر إبادة المسلم واجباً مقدساً وفرض كُلف به الرجل المسيحي الأبيض من الله، ، وطوال فترة الاحتلال ارتكب بحق النساء بالذات ما لم يكتب، ولا هو يجوز وصفه، من فرط البشاعة والعنف.
وقصة "الجربوع الأزرق" بالذات هي إحدى أقذر الجرائم وأبشعها في التاريخ الإنساني، بجانب الجرائم والمجازر والإبادة طول 132 سنة، تجربة الأسلحة، القنابل، المتفجرات، عملوا بكل كد لإبادة الشعب الجزائري، حتى وصلوا إلى أن أجروا أول تفجير نووي لهم في أرض الجزائر، تحديدًا في صحراء "رقان" لضمان وصول الضرر إلى أكبر عدد من السكان، ولمدد طويلة، تحت اسم "قنبلة الجربوع الأزرق" النووية، وربطوا الجزائريين على أبعاد مختلفة من مركز التفجير ليقوموا بأبحاث تأثير الإشعاع عليهم، في جريمة متكاملة الأركان.
في النهاية حين قرر الشعب الجزائري أن يثور في العام 1954، ووقت أن كانت فرنسا قوة عظمى لا حدود لبطشها، ولا موقف دولي قد يؤثر بها أو يكبحها، أنهت المقاومة الاحتلال فعلًا ورسميًا في 8 سنوات فقط لا غير، وجعلت من استمرار الاستعمار نزيفًا لا يحتمل بالنسبة لفرنسا وجيشها الإمبراطوري الضخم، خاضت "جبهة التحرير الوطني الجزائرية" معركة استنزاف ومعركة نقاط ومعركة صبر ووقت، كسبت استقلالها وحريتها في العام 1962، استقلال معمد بدم مليون ونصف المليون إنسان.
هذه الجرائم لا يعرفها إعلامنا العربي ولا مثقفونا العرب والنخب المفكرة في مجتمعاتنا، هؤلاء يرون في باريس "عاصمة النور"، على سبيل المثال لا الحصر فإن "رائد النهضة" المصري رفاعة الطهطاوي كان يرى في فرنسا كعبة الأنوار، وأكثر، قال إنه وجد في فرنسا "إسلامًا بلا مسلمين"، وهذه الرواية هي التقليدية، وأول ما يعرفه الطالب الصغير في سنوات تعليمه الأولى عن فرنسا هذه.
..
الشعوب العربية في أغلبها محتلة "ذهنيًا" من الغرب المتوحش المجرم، لا نزال ندرس ونقرأ ونتعلم تاريخهم هم لا تاريخنا نحن، لا يزال المرجفون بانتظار التفاتة رضا ونظرة عطف من فرنسا وأوروبا تجاه قضايانا، ما زلنا نخشى ذكر الأسير جورج عبد الله، وهو وحده شاهد قائم وحي على موقف هذا الغرب منا، ونظرتهم إلينا، التي لا تختلف عنها كثيرًا خلال الحروب الصليبية القديمة، في حربهم الجديدة علينا.. خيار المقاومة مكلف دائمًا، وهو يحتاج للشهداء كوقود وللدماء تُعَبِّد أول خطوات الطريق، لكنها خيار –كما يقطع تاريخنا- لا يعرف الهزيمة، ولن يعرفها، هو خيار سيد الشهداء الحسين عليه السلام، وراية الثأر الحمراء لا تزال مرفوعة ببهاء وألق على مشهده، لتصرخ في وجه كل جبابرة التاريخ أن معركتنا مستمرة ولم ولن تتوقف.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024