آراء وتحليلات
خلفيات الموقف الهندي من "طوفان الأقصى"
حيّان نيّوف
طوال عقودٍ من الزمن ظلّت العلاقات الهندية-الإسرائيلية واحدة من أسوأ العلاقات على المستوى الدولي، ويرجع ذلك إلى الإرث الذي خلّفه "جواهر لال نهرو" كزعيم لاستقلال هذا البلد وأوّل رئيس وزراء هندي وأحد قادة ومؤسسي حركة عدم الإنحياز والذي أسس لموقف هندي داعم للقضية الفلسطينية. وخلال 50 عامًا اقتصرت العلاقات الإسرائيلية على وجود أربعة موظفين في القنصلية الإسرائيلية في مدينة مومباي حيث كان ممنوعًا على "إسرائيل" أن تفتتح سفارة لها في العاصمة الهندية، بينما تمنّعت الهند عن إرسال أي ممثل دبلوماسي لها إلى الكيان الصهيوني.
واستمرت العلاقات على هذا الحال حتى العام 1992 حين أقيمت علاقات دبلوماسية بين الطرفين، ثم شهدت العلاقات منحىً تصاعديًا منذ وصول حزب بهارتيا جانتا القومي الهندوسي إلى السلطة في العام 1998، فأقام الحزب علاقات قوية مع "إسرائيل"، حتى باتت الهند أكبر مشترٍ للأسلحة الإسرائيلية. كما أصبح "ناريندرا مودي" أول رئيس وزراء هندي يزور "إسرائيل" العام 2017، منذ التقارب الدبلوماسي بين الطرفين. وقد أسهم مودي في تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية بين الكيان والهند، حيث بلغ حجم التجارة بينهما 10.1 مليار دولار في السنة المالية 2022 و2023، وارتفعت الصادرات الهندية إلى "إسرائيل" بنسبة 77% خلال المرحلة ذاتها.
حققت بعد ذلك العلاقات الهندية الإسرائيلية نقلة نوعية استراتيجية في يوليو/تموز من العام 2022 عندما فازت شركة ادناي الهندية بعقد لشراء حصة كبيرة من ميناء حيفا بلغت 30% بعد أن ضغطت واشنطن لإفشال صفقة مماثلة بين "تل ابيب" وبكين، حيث جرى التوقيع على الصفقة الجديدة خلال زيارة بايدن لـ"إسرائيل". وكان لافتًا ما صرّح به رىيس شركة ادناي الهندية في أثناء التوقيع على تلك الصفقة بقوله: "أفتخر بتواجدي في حيفا، حيث قاد الهنود العام 1918، إحدى أعظم هجمات سلاح الفرسان في التاريخ العسكري" وهو يشير بذلك إلى الجنود الهنود في الجيش البريطاني والذين سيطروا على حيفا وطردوا العثمانيين منها قبل أن تقدمها بريطانيا لليهود، وعدّ تصريح ادناي في حينها بأنه محاول لإضافة طابع تاريخي وسياسي للعلاقات بين الهند و"إسرائيل".
بالتوازي مع ذلك عقد لقاء من بُعد جمع الرئيس الأميركي جو بايدن الذي كان يزور "إسرائيل" ورئيس حكومة العدو يائير لبيد، ورئيس دولة الإمارات محمد بن زايد، ورئيس الوزراء الهندي نارندرا مودي، لإطلاق مبادرة "i2u2" للأمن الغذائي والطاقة النظيفة التي أسستها الولايات المتحدة من أجل إنشاء حزام إستراتيجي لمواجهة الحزام والطريق الصيني. وهذه المبادرة شكّلت حجر الأساس لمشروع الممر "الهندي الشرق أوسطي الأوروبي" الذي أعلن في العام الحالي خلال قمة العشرين في نيودلهي لربط الهند بدول الخليج والأردن و"إسرائيل" ومن ثم عبر المتوسط إلى أوروبا.
استنادًا إلى كلّ ذلك فإنه لا يمكننا ادعاء المفاجأة من الموقف الهندي الرسمي من عملية طوفان الاقصى ومنذ اللحظة الأولى لانطلاقتها، فقد صرح رئيس الوزراء الهندي بأنه مصدوم من ما أسماه "الهجوم الإرهابي" من حماس على "إسرائيل"، بينما صرّح وزير آخر من حكومته بأن الهند تعرب عن تضامنها مع "شعب إسرائيل" بحسب تعبيره.
لاحقا لهذا الموقف المنحاز مع الكيان الصهيوني، ومع ما ظنته الهند بأنه خيار الضرورة الذي يخدم مصالحها الإستراتيجية وموقعها في العالم الجديد كقوة عظمى صاعدة وكمحطة رئيسة من محطات الممر الإستراتيجي الهندي الشرق أوسطي الأوروبي وبوابته على آسيا والشرق، ونتيجة لتطورات معركة طوفان الاقصى التي فرضت معادلات جيوسياسية وجيواقتصادية جديدة، أرخت بظلالها على هذا المشروع، وأظهرت حجم المخاطر والعوائق التي تتهدده قبل البدء بتنفيذه، وحجم الصراع الناشئ بسببه والمرشّح للتطور، ولعوامل عديدة داخلية وخارجية، بدأ الموقف الهندي من طوفان الاقصى يأخذ منحىً أقرب إلى الحيادية بعد أن كانت الهند من الدول التي صوّتت ضد مشروع قرار لوقف إطلاق النار في مجلس الأمن، قبل أن تعود وتوافق على القرار الأخير الصادر بخصوص المساعدات الإنسانية على الرغم من عدم أهميته.
وبموازاة التحول الخجول في الموقف الهندي وبإزاء تطورات عملية طوفان الأقصى والعدوان على غزة، والتوتر الملحوظ في العلاقات الهندية الأمريكية منذ زيارة الرئيس الصيني للولايات المتحدة على هامش قمة آيباك، واتهام واشنطن للحكومة الهندية بالوقوف خلف اغتيال أحد المعارضين الهنود في الخارج ومحاولة واشنطن استغلال ذلك للضغط على نيودلهي، كان لافتًا وقوع حادثتين على هامش عملية طوفان الأقصى مرتبطتين بالهند، الأولى تمثلت باستهداف ناقلة نفط إسرائيلية قبالة سواحل الهند الغربية والثانية وقوع تفجير بجوار السفارة الإسرائيلية في نيودلهي.
ويمكن القول إن التفجير المزعوم الذي وقع قرب سفارة الكيان الصهيوني في العاصمة الهندية، لا يختلف عن الاستهداف المزعوم لناقلة النفط الإسرائيلية قبالة سواحل الهند، فكلا الحدثين يشتبه في أنه من تدبير المخابرات الغربية والإسرائيلية.
وكان من الواضح بأن هناك ضغطًا غربيًا/صهيونيًا على الهند لدفعها للانضمام إلى التحالف الصهيو-أمريكي واتخاذ موقف أكثر انسجامًا والتصاقًا بواشنطن، خاصة أن نيودلهي التي تسرعت في البداية باتخاذ موقف سلبي من طوفان الأقصى عادت واتخذت موقفًا أكثر حيادية وأكثر انسجامًا مع الموقف الروسي.
الهند اليوم باتت على يقين بأن الممر "الهندي الشرق أوسطي الأوروبي" دونه عوائق جيوسياسية خطيرة، وأن الرهان على ممر شمال-جنوب الذي يربطها بروسيا عبر إيران هو الأنجع والأسلم لها ولتجارتها واقتصادها، وليس أمامها سوى العودة لتأكيد خياراتها الإستراتيجية عبر بريكس وشنغهاي، وهي التي تستورد 40% من النفط الروسي منذ الحرب الأوكرانية وتقوم بتكريره وإعادة تصدير الفائض عن حاجتها وتحقق أرباحًا كبيرة، وتستورد معظم سلاحها الحديث من روسيا، وتقيم معها علاقات توازن بإزاء العلاقات الروسية الصينية الروسية، وبما يحقق توازنًا استراتيجيًا لهذه القوى الثلاث ومعها إيران في شرق متوازن قادر على تحقيق التنمية والشراكة بعيدًا عن التناحر.
أخيرا يمكن القول إن طوفان الأقصى قلبت المعادلات الجيوسياسية الإقليمية والدولية، وبدلت -وما تزال- خارطة التحالفات في الإقليم والعالم، ويخطئ من يعتقد أنها معركة عابرة في الصراع الإقليمي والعالمي، بل إنها واحدة من أهم المحطات التاريخية التي ستغيّر وجه المنطقة والعالم.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024