معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

الشهيد سليماني وتمكين المقاومة في فلسطين.. شهادات لا تُحجَب
02/01/2024

الشهيد سليماني وتمكين المقاومة في فلسطين.. شهادات لا تُحجَب

علي عبادي

تأتي الذكرى السنوية الرابعة لاستشهاد الفريق قاسم سليماني في ظل العدوان الصهيوني على قطاع غزة وزمن "طوفان الأقصى" لتشكّل مناسبة تفرض نفسها لاستعادة الجهود الحثيثة التي بذلها الشهيد سليماني بالتعاون مع بقية قادة محور المقاومة من أجل تجهيز المقاومة الفلسطينية ورفع مستوى أدائها العسكري، وهو ما يتجسد اليوم في مقاومة عزّ نظيرها في وجه عدوان وحشي غير مسبوق.

وقد قامت الجمهورية الإسلامية الإيرانية بدور بارز في تطوير قدرات المقاومة الفلسطينية على جميع الصعد، ولاسيما التسليح والتدريب ونقل الخبرات القتالية والتمويل، انطلاقًا من رؤيتها العقائدية في دعم كفاح الشعب الفلسطيني ضد المغتصبين الصهاينة. وانطلق هذا الجهد بشكل خاص في مطلع تسعينيات القرن الماضي بعد انعقاد مؤتمر مدريد للتسوية الذي نظّمته الإدارة الأميركية لإنهاء الصراع العربي- الصهيوني وتكريس وجود الكيان المؤقت. وأخذ هذا التوجه زخمًا إضافيًا بعد تعيين اللواء سليماني قائدًا لقوة القدس في حرس الثورة الإسلامية العام 1998، حين أعطى تردُّده الدائم على سوريا ولبنان وإقامته في المنطقة لأوقات طويلة دفعًا كبيرًا لعمل المقاومة في لبنان وفلسطين، مستفيدًا من الروابط القائمة بين الساحتين. وشكّل الشهيد سليماني والقائد الشهيد عماد مغنية في السنوات اللاحقة ثنائيًا مترابطًا في إمداد المقاومة في فلسطين بالإمكانات، من دون تفرقة بين فصيل وآخر. واستفاد الشهيد سليماني من علاقات الشهيد مغنية مع المقاومة الفلسطينية وتجربته في العمل الميداني، فانفتح على جميع الفصائل التي قررت الإنخراط في عمل المقاومة، وشمل ذلك الفصائل غير الإسلامية، إضافة الى حركة "فتح" التي اتخذ مقاتلوها بعد انتفاضة الأقصى عنوان "كتائب شهداء الأقصى".  

ويمكن التوقف عند بعض ملامح هذه الجهود التي تعززت بعد تحرير الجنوب اللبناني في أيار العام ألفين، حين تركزت اجتماعات العمل على نقل شرارة الانتصار في لبنان إلى فلسطين، وأشّر على ذلك "خطاب بيت العنكبوت" الذي توجّه فيه الأمين العام لحزب الله إلى الشعب الفلسطيني، مؤكدًا أن مصيره يتقرر بيده. وبالفعل، جاء تفجير "انتفاضة الأقصى" في أيلول من العام نفسه ليضع فلسطين على خط مواجهة شاملة مع الاحتلال، وواكب الشهيد سليماني هذه المرحلة بنشاط عبر اجتماعات متلاحقة مع قوى المقاومة. وتكثفت عمليات نقل الأسلحة إلى قطاع غزة والضفة الغربية برًا وبحرًا، وتمّ توقيف إحدى الشحنات على متن السفينة "كارين أي"، كما ترافقت مع دورات تدريب عسكرية تخصّصية للمقاومين الفلسطينيين في إيران ونقل خبرة تصنيع العبوات الناسفة إلى الداخل المحتل عبر فيديوهات تعليمية، إضافة إلى إسهامات أخرى لم يُكشف الكثير عنها بسبب الاعتبارات الأمنية. وبعد تحرير قطاع غزة العام 2005، تعززت عمليات دعم المقاومة في القطاع عبر مسارات عدة وحققت قفزات نوعية في السنوات الأخيرة، حيث أصبحت المقاومة الفلسطينية قادرة على إنتاج نصيب وافر من الأسلحة والذخائر، ما أسهم إلى حد كبير في تحقيق نوع من الاكتفاء الذاتي في بعض المجالات والتغلب على مساعي العدو وحلفائه الهادفة لقطع الطريق على المقاومة.

الأنفاق

تمثلُ الأنفاق التي شيّدتها المقاومة الفلسطينية في باطن أرض قطاع غزة واحدةً من أبرز عجائب المقاومة في غزة. ولا ريب أنها قصة تستحق التوقف والدراسة وكتابة القصص عن كيفية إنشائها، وكيفية إخفائها عن أعين العدو لمدة طويلة، وكيفية استخدامها في أثناء القتال وتوظيفها في ضرب جيش العدو في أثناء عملية "طوفان الأقصى" وخلال هجومه البري على القطاع.

ولا نعرف إلا القليل عن هذه الأعجوبة التي أضحت أسطورة في أذهان العدو قبل الصديق، غير أن العديد من قادة المقاومة الفلسطينية تحدثوا في مناسبات عدة قبل "الطوفان" عن منشأ فكرة بناء الأنفاق.

وأوضح ممثل حركة "حماس" في لبنان أحمد عبد الهادي في ندوة في معهد الدراسات الدولية في بيروت في 8 كانون الثاني 2020 بعد أيام قليلة على اغتيال الفريق سليماني، أن "فكرة الأنفاق جاءت من شخصين: الشهيد القائد عماد مغنية والشهيد الحاج قاسم سليماني". وأضاف أن سليماني: "ذهب إلى غزة أكثر من مرة، وكان مساهمًا ومشاركًا في الخطة الدفاعية التي تمّ رسمها خلال المرحلة الماضية"، بحسب قوله.

وفي هذا المعنى أيضًا، قال منصور حقيقت بور المساعد الأسبق للفريق سليماني في مقابلة خاصة مع موقع "الجزيرة نت"، إن محور المقاومة خطط مع المقاومة الفلسطينية لبناء ما يزيد على 400 كيلومتر من الأنفاق تحت بقعة أرض لم تتجاوز مساحتها 40 كيلومترًا مربعًا، مؤكدًا أن لا خوف على أنفاق غزة لأن من أشرف على تصميمها أخذ شتى "السيناريوهات" المحتملة بعين الاعتبار، ومن هذه السيناريوهات "غمر الأنفاق بالمياه أو ضخّ الغاز السام فيها أو تفجير أجزاء منها". وأبدى اعتقاده بأن العدو "عاجز عن غمرها بالمياه بالكامل؛ لأنها بُنيت على أجزاء وليست شبكة موحدة".  

الصواريخ

تتفق شهادات عدة على أن الشهيد سليماني بوصفه قائد قوة القدس التي تنسق مع فصائل المقاومة الفلسطينية لعب دورًا رئيسيًا في تجهيز وتقوية قدرات المقاومة التسليحية. وكشف رئيس حركة حماس في قطاع غزة يحيى السنوار في مؤتمر صحفي في 28 آب 2017 أن إيران "هي الداعم الأكبر للسلاح والمال والتدريب لكتائب القسّام"، واصفًا الدعم الإيراني العسكري لحماس والقسّام بأنه "استراتيجي"، وأن المقاومة الفلسطينية "تُراكِم وتطور قوتها العسكرية التي تضاعفت لأجل تحرير فلسطين والعودة". وفي حديث صحافي آخر في 9 كانون الثاني 2020، نوّه السنوار بدور إيران وسليماني في بناء القوة العسكرية للمقاومة منذ تسعينيات القرن الماضي حتى يومنا، مشيرًا الى أن الدعم الذي تقدمه الجمهورية الإسلامية هو "عقائدي ومبدئي... ونابع من محبة كبيرة لفلسطين وأهلها"، مضيفًا أنه "حتى في عزّ العقوبات والأزمة عندهم، دعمهم لم يتوقف... مثلًا في 2015، قدّموا عشرات الملايين من الدولارات للتصنيع العسكري". وهذا تأكيد على أن الدعم الإيراني غير المحدود مبنيّ على قناعة مبدئية وليس على رؤية مصلحية ظرفية، كما تروّج الدعاية المضادة باستمرار.

وتطورت إمكانات المقاومة الصاروخية بشكل سريع من صواريخ قصيرة المدى قادرة على قصف المستوطنات القريبة من غزة إلى صواريخ تصل الى تل أبيب والقدس وما بعدهما. وسمح هذا بإيجاد توازن رعب في مواجهة الاعتداءات الصهيونية على القطاع.  

ويُستشف من شهادات عدة لا مجال لحصرها هنا أن الإمكانات التي حققتها غزة على هذا الصعيد تعود في جزء أساسي منها الى الجهود الكبيرة للشهيد سليماني الذي عمل مع فريقه ومع بقية أطراف محور المقاومة لإيصال هذه الأسلحة وخبرة تصنيعها إلى فلسطين. وقال الأمين العام لحركة الجهاد الاسلامي زياد النخالة خلال حفل تأبين في العاصمة الإيرانية طهران لمناسبة الذكرى الثانية لاستشهاد قائد قوة القدس إن: "الصواريخ التي ضربت الكيان الصهيوني وتل أبيب أول مرة كان (الشهيد سليماني) هو شخصيًا من أشرف على إيصالها للمقاومين في فلسطين". وأضاف: "إنني أشهد أمام الله والتاريخ والأمة في ذكرى رحيله أنه كان الفلسطيني الأول والإسلامي الأول الذي كان يقف حاملًا همَّ فلسطين وهمَّ القدس".

وفي الحروب المتتالية التي شهدها قطاع غزة مع العدو، حرص محور المقاومة في المنطقة على رفع مستوى التنسيق مع المقاومة في غزة بهدف تقييم الموقف الميداني وتوفير المعلومات الإستخبارية لقيادتها في إدارة المعارك. وخلال حرب سيف القدس في أيار 2021، كشف القيادي العسكري في كتائب القسام محمد السنوار، وهو شقيق القائد يحيى السنوار، أن: "غرفة أمنية مشتركة مع محور المقاومة ضمت ضباط استخبارات من القسام وحزب الله والحرس الثوري كانت في حال انعقاد دائم طوال الحرب" وأن الغرفة الأمنية المشتركة "كانت لها إسهامات استخبارية مهمة خلال المعركة".

ويتضح من مجمل هذه المعطيات أن الشهيد سليماني لم يتوقف عند جانب محدَّد في إسناد المقاومة في فلسطين، بل عمل - مع قوى المقاومة في المنطقة- على صعد مختلفة بهدف إيصالها الى مستوى يمكّنها من الصمود وتحقيق الانتصار في أية مواجهة مع العدو. وتجاوز محور المقاومة في هذا السبيل كل العقبات الأمنية والفجوات المفتعلة من أجل تمهيد طريق القدس. ولعل من أبرز سمات الشهيد سليماني التي لم تعد خافية أنه صاحب روحية عالية ورجل فعل وإصرار نزل إلى الميدان وتنقَّل بين المقاتلين وتواصل مع كبار المسؤولين حيثما حلّ لتحقيق هدف تمكين المقاومة والانتصار على العدو.

قاسم سليماني

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات