آراء وتحليلات
الانهيار الاقتصادي الكبير قادم وأميركا لم تتحضر له بعد
عبير بسّام
في نهاية أيلول/سبتمبر من العام الماضي، كتبت ناشونال ريفيو مقالًا بعنوان: "أمهات الانهيار الاقتصادي". كان العنوان ملفتًا جدًّا، وكان يتحدث عن أن الانهيار المالي الكبير في الولايات المتحدة قادم في العام 2025. كاتب المقال، دومينيك بينو، عبر عن قلق غير طبيعي، إذ ابتدأ المقال بالقول "سنسقط في العام 2025، والناس لا يشعرون بالقلق". ويستند بينو في مقاله إلى سلسلة من الدراسات التي أجراها خبراء أميركيون في معاهد للدراسات الاقتصادية في أميركا، وهم يعلنون عن انهيار اقتصادي أكبر بكثير من ذلك الذي شهدته أميركا في العامين 2012 - 2013. وقد نشر موقع الطريق الأميركي، "the Street"، مقالًا حول بدايات قصص الانهيارات القادمة ومنها إعلان إفلاس أقدم شركات بيع الأثاث بالتقسيط في أميركا وإغلاق أبوابها، والحبل على الجرار.
المقال الذي كتبه كيرك أونيل في موقع الطريق ذكر فيه أسماء الشركات التي أعلنت إفلاسها نهائيًا أو تلك التي اضطرّت إلى إغلاق عدد من فروعها. ويبدو أنه عندما تتوقف الناس عن شراء العقارات، فإنها تتوقف في الوقت نفسه عن شراء الأثاث الجديد. وعندما تتوقف صناعة بيع الأثاث بالتجزئة، أو التقسيط، نهائيًا، فهذا معناه أن الناس تعيش حالة مادية خانقة. الموقع لا يتضمن فقط قصص توقف الشركات، بل يذكر من خلال عناوينه الرئيسية مقالات تتحدث عن كيفية معالجة إعلان الإفلاس وما هي النماذج التي يجب تعبئتها. وهذا ما يحدث في أميركا اليوم، ويبدو أن الناس والمسؤولين نيام.
لا أحد يدري لماذا يصم المسؤولون الأميركيون آذانهم عن وجوب القيام بإصلاحات، ولماذا لا يرغبون بإحداث أي تغييرات، والدولة الأميركية في عهد جو بايدن، قامت بتحديد سقف الدين بـ 31،4 تريليون دولار في حزيران/ يونيو العام الماضي، ولكن في أيلول/سبتمبر من نفس العام بلغ الدين العام 33 تريليون دولار، بسبب رفع سعر الفائدة، وقامت الخزانة بتحذير الحكومة من أنها لم تعد قادرة على سداد الدين السيادي في الخامس من حزيران/ يونيو الماضي. وهو دين من جزئين داخلي وخارجي.
ولكي نفهم ما معنى الديون السيادية الأميركية، علينا أن نعرف، أولًا، ماذا يعني الدين العام؟ الدين العام: هو الدين الذي يحتفظ به المستثمرون والأفراد والمؤسسات والحكومات الأجنبية. تقوم هذه المجموعات بشراء سندات الخزينة الأميركية مقابل فوائد معينة على دينها، ويكون الدين عادة إما بالدولار الأميركي أو باليورو. وفي حال تقاعست الحكومة الأميركية عن سداد دين السندات، مع أن السندات لا تلزم الولايات المتحدة بدفع الدين، لكن التقصير في دفعه سيفقدها الثقة بالأهلية الاقتصادية لها وبالتالي ستتراجع الاستثمارات فيها، إلا إذا قامت الدولة برفع الفائدة على الدين من أجل تمديد أمده. وقد بلغت ديون الولايات المتحدة الأجنبية في آخر تقرير صدر في كانون الثاني/ يناير 2023، 1،112 تريليون لليابان، 859 مليار دولار للصين، 668 مليار دولار للمملكة المتحدة، 331 مليار دولار لبلجيكا، و318 مليار دولار للكسمبورغ، وغيرها. في كلّ الأحوال تعتبر حتّى اليوم سندات الخزينة الأميركية مكانًا آمنًا ومضمونًا لحفظ الدولار، وفي الوقت نفسه، فإن الدولة الأميركية تعيد الدولار الفائض ليستقر في بنوكها مما يحافظ على قيمته العالمية، ما دام سعر برميل النفط مرتبطًا بسعره.
لكن هذه الإجراءات لن تنفع بشيء بالنسبة للدولار الأميركي في حال تخلفت الحكومة عن سداد الدين؛ فمن المحتمل حينئذ أن يفقد الدولار مكانته العالمية وتصبح الحكومة والشركات مجبرة على دفع فواتيرها الدولية بعملة أخرى. ولكن من جهة أخرى عدم رفع سقف الدين لن يمكنها من دفع الدين الداخلي، والحكومة ملزمة بدفعه، وهو دين سيادي. وعدم قدرة الدولة على دفع رواتب الموظفين فيها، يعني عدم قدرتها على جني الضرائب المقتطعة من هذه الرواتب، وأن هناك المزيد من الموظفين والعاملين الذين سيفقدون أعمالهم، مما سيشكّل معادلة صعبة، ويمكن للولايات المتحدة أن تعلق في معادلة: "الدجاجة أولًا أم البيضة"! ثمّ إن الدين الداخلي للولايات المتحدة، هو دين تقترضه الحكومة من البنك الفيدرالي الأميركي، وبلغ حتّى إحصائيات العام الماضي 79% ديونًا داخلية، وأما الباقي فديون خارجية.
لهذا السبب يمكننا فهم الصرخة التي أطلقتها ناشونال ريفيو في مقال أيلول/سبتمبر الماضي. ويزيد الطينة بلة أن السبيل إلى جني المزيد من الأموال يرتبط برفع الضرائب، وستطال الضرائب المرتفعة الطبقة المتوسطة مع بداية العام 2025. وهذا السبب سيكون من أهم أسباب فوز دونالد ترامب انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، لأنه وعد خلال حملته الانتخابية بعدم رفع الضرائب، في حين أن بايدن مرتبط ملتزم بعدم رفع الضرائب بموجب القانون حتّى العام 2025 فقط، وما تزال الأخطار حتّى اليوم محدودة لأن قرار رفع الضرائب لم يؤخذ بعد، والناس في أميركا لا تشعر بالقلق إزاء ذلك بعد. حتّى أن بينو يقول حرفيًا: "سنسقط في عام 2025، والناس لم تشعر بالقلق الحقيقي بعد"، "أم الانهيارات المالية قادمة في العام 2025، ونحن لسنا مستعدين لذلك".
بدأ ناقوس الخطر يدق بقوة وعنف، بسبب الخلاف الذي حصل في الكونغرس الأميركي حول رفع الدين في العام الماضي، وابتدأ معها خطر عدم قدرة الحكومة الأميركية على دفع رواتب موظفيها وعسكرييها، وتمويل الضمان الاجتماعي، ونظام أوباما للعناية الصحية، وهو إعانات للأسر التي تقع 400% تحت خط الفقر بحسب التقييم الفيدرالي، كما سيتضرر النظام التعليمي ويتعسر دفع رواتب موظفي الدولة في جميع الوزارات، ولكن أقرت التسوية للعام الماضي حين مرر الكونغرس قانون خطة الإنقاذ الأميركية، الذي أصدره بايدن ومدد قانون وقف التضخم، ورفع أسعار الفوائد.
ولكن في الجواب الدقيق عن السؤال المطروح حول ماذا سيحدث في العام 2025، فبحسب بينو: "جميع الأحكام المتعلّقة بدافعي الضرائب الأفراد في قانون التخفيضات الضريبية والوظائف تنتهي في 31 كانون الأول/ ديسمبر 2025. وعندها سينخفض الخصم القياسي وسوف يزيد العبء الضريبي على معظم دافعي الضرائب، وسينتهي أيضًا العمل في بعض أحكام قانون "التخفيض الضريبي والوظائف"، والذي يتعلق بأمور منها: معالجة المدفوعات عبر الحدود، وتخفيض قيمة المكافآت للاستثمارات، والإعفاءات الضريبية لمناطق فرص العمل. كما سينخفض العمل بقانون الائتمان الضريبي للأطفال من 2000$ كحد أقصى إلى 1000$ كحد أقصى لكل طفل".
عبّر العديد من الخبراء الاقتصاديين والماليين عن مواقف متشائمة ومتشابهة، ومنها ما جاء في تصريح بول وينفري في مقال أمهات الانهيار الاقتصادي. وينفري، مؤرخ اقتصادي عمل في قضايا البيت الأبيض والكونغرس، وألف كتابًا عن تاريخ عملية الميزانية الأميركية، وما يقلقه فعليًا هو عدم مبالاة الناس في واشنطن مما سيأتي في العام 2025، وأقصى ما تلقاه من جواب خلال الحديث مع أحد أعضاء الكونغرس: "شكرًا لك على التفكير في هذا الأمر ولكننا لا نمتلك [الوسائل] للتعامل مع هذه القضية الآن". وهذا ما يعد أسوأ استجابة في وقت لم تنخرط فيه أميركا فعليًا في أية حروب ولا تعاني فيه من انخفاض البطالة بعد ولكنها في الواقع تسير باتّجاهها.
لنلخص ما سيحدث لاحقًا، إذا جاءت فعليًا نهاية العام 2025 ولم يكن هناك مخارج عملية، وابتدأ العمل بنظام ضريبي مرتفع، سيغلق الكثير من الأعمال أبوابه، إضافة إلى ما عددناه بما يتعلق بمخاطر عدم سداد الدين السيادي من دفع الرواتب والأجور ووقف التوظيف. وقد نشرت الصحافة الأميركية منذ أيام حول قرار وقف التوظيف في القسم الطبي في القوات المسلحة الجوية، وستنتشر البطالة وترتفع نسبة الفقر وبالتالي سترتفع نسبة الجريمة والسرقة، وهذا حدث فعليًا خلال مراحل مختلفة من تواريخ الكساد في أميركا. هل شاهد أحدكم أحد أفلام سلسلة الأفلام الأميركية، "The Purge"، "التطهير"؟ إنه يشرح بالتحديد ماذا سيحدث! تبدأ عملية التطهير في الفيلم بقرار من مسؤول كبير كي يجنب نفسه مخاطر المعترضين على سوء الأحوال المعيشية والصحية، ويطلق العملية التي تسمح للأقوياء بقتل الضعفاء والمسالمين وسرقة أموالهم وبيوتهم دون أن يتدخل القانون ليدافع عن المستضعفين. ويبدأ الأميركيون الناجون بالهرب من أميركا باتّجاه المكسيك، بعد أن نفذوا بجلدهم ورفضوا دخول اللعبة القذرة. من وضع قصّة الفيلم ليس "مبصرًا"، إنه متابع يقرأ كيف تسير أميركا نحو الانهيار، والمضحك أن نجاة الأخيار ستكون بوصولهم إلى المكسيك!
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024