معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

المقاومة بين "التكتيك والاستراتيجية"
26/02/2024

المقاومة بين "التكتيك والاستراتيجية"

علي فضة - معاون الأمين العام للحزب العربي الديمقراطي

سنقوم هنا بشرح مبسط عن مفهوم شائع نسمعه يتردّد كثيرًا، سيما في الحياة السياسية وخاصة في الحروب.

"الاستراتيجية والتكتيك"

هناك تفاسير عدة لتلك المصطلحات، لكن معظمها من وحيّ تفسير سو تزو الفيلسوف الصيني الواضع لكتاب "فن الحرب"، الذي يفهمهما بشكل عميق، يسهل عليه تفسير كثير من المجريات والأحداث دون تيه في المشاهد المصدّرة لنا إعلاميًا وسياسيًا، حيث يقول تزو إن "الاستراتيجية دون تكتيكات هي أبطأ طريق للنصر، أما التكتيكات دون استراتيجية هي الضجيج ما قبل الهزيمة".

نفهم هنا أن الاستراتيجية هي "الهدف" بينما التكتيك هو التفاعل بتناغم مع المتغيرات والتطورات في المسار، يمكن تغييره إذا اقتضت الحاجة للوصول للهدف، أما الاستراتيجية ثابتة لا تتغيّر، من خلال هذا نفهم التالي والذي على الجميع معرفته وهضمه لفهم ما يجري في سياق المعاش حاليًا، إذا أردنا أن نقوم بإسقاطه على الأحداث الجارية، الهدف "الاستراتيجي" لدى المقـاومة واضح وجلّي وعبّرت عنه معظم قيادات المحور وهو "النصر" هنا يُشكلُ البعض على هذا المفهوم، ويَسأل ما هو تعريف "النصر" لدى المحور؟ في هذه المعركة هو إسقاط أهداف العدوّ المعلنة وغير المعلنة كفعل تراكمي لهزائم متتالية "تكتيكية"، لكن في هذه المعركة بالذات هناك تحوّل نوعي، باعتبار أن الناتج الفعلي هو أشبه بتحول كبير بمجرى الصراع من حيث النتائج والإفرازات الجيوسياسية والعسكرية، لذا نرى التأني الدقيق في الإدارة كي لا يضيع المكتسب "التكتيكي" بخطوة غير محسوبة. الأهم في الوصول للهدف الاستراتيجي والذي يعرِّف جدلية "النصر" هي "القضاء على العدو“ كهدف "استراتيجي"، كلنا يعلم أن عدونا، لا يمكن القضاء عليه بضربة قاضية أو بحرب تحرير كلاسيكية، لذا "التكتيك" فرض تغييرًا في فلسفة المواجهة وذلك مرده لعوامل كثيرة معقّدّة لكن سنسهل شرحها، دون أن نغفل أن الصبر والإرادة ملازمان لها، أهمها:

 - ١ - التركيبة البنوية للعدو
 
تركيبة العدوّ البنوية الشاملة غاية في التعقيد وأمام التعقيد وجب التفكيك.
أ - علاقة العدوّ مع منظومة الغرب الكولونيالي، فهو ليس حليف بل جزء من مصالح، والعقبات تكمن هنا. لكن إذا ما نظرنا إلى رؤية الغرب المتبعة لحلّ مشاكله الحساسة، وإعادته لترتيب أولوياته، هناك أمرين، إما المواجهة المباشرة وإحياء الموتى أو التخلي المصلحي باعتراف أكثر من الواردات "تحديد الخسائر والحدّ من نزيفها"، هنا لا ريب أن العدوّ ينحاز إلى مصلحته العليا والعوامل المؤثرة بهذا الانحياز وتقدير الحلّ الأنجع بالنسبة له "الأمثلة كثيرة على هذا النهج".

ب - الكيـان في أساس تركيبته واضح المعالم والدور الوظيفي، لكن مع مرور الزمن تداخلت به الكثير من الأمور الخارجية والداخلية، بفعل تأثره بالمتغيرات العالمية، ليصبح "استثمارًا" أكثر من كونه "كيان وظيفي" وجوده يمثل عصا غربية غليظة، وليصبح "بمكاني" أكثر من كونه سياسي الهدف.

المهتمون الباحثون بشأنه الداخلي، يرون أنّ هويته الكينونية المسبقة الصنع شابها الكثير من الاختراقات، بينها ما هو "جوهري" وما هو "ثانوي". لنركز على الجوهري "كنشأة ووظيفة"، ليكون جزءًا من منظومة الغرب المطلوب أن يكون صهيـوني الدور والفعل، هذا ما كان عليه الحال بدايةً، هو "تنفيذ أجندة" بمعزل عن الدعاية لاستجلاب اليـهود كتدعيم للأجندة وكاستكمال ضروري لإنتاج "كيان"، لكن قادة هذا الكيان حكمًا يجب أن يكونوا "صهــاينة" لا يهـودًا بالمعنى الانتمائي حيث تتضارب المصالح بين المفهومين، لأنه حينها يغلب الطابع الديني على السياسي فتتبدل المصالح "لتقول حينها أميركا وبريطانيا لتيودور هرتزل "ما هكذا كان الاتفاق!".

استكمالًا..

"التفوق العسكري" مطلوب لتأمين استقرار داخلي "اقتصادي، اجتماعي، سياسي، أمني...الخ" كان هدفه التاريخي عامل جذب لاستيراد المستوطنين اليهـود وكواحة للاستثمار في أقوى الاقتصادات (كان فعلًا كذلك) وكأقوى جيش في المنطقة والرابع عالميًا. التفوق العسكري محط نقاش جدّي حيث بات موضع شكّ مُريب بفعل التغيير في التوازنات وإثبات أنه "يفقد الروح القتالية" وهذه مقتلة لأعتى جيوش العالم وبغيابها لا يفيد أي تفوق جوي أو تكنولوجي أو استخباراتي، هنا باتت معادلة تهديده ملايين الوافدين إليه حقيقة، لا يخفيها إعلامهم وإن كابر ساسته عليها، الاستقرار الجاذب لرأس المال الذي بطبيعته جبان وغير محمي وهذه مقتلة ثانيّة تشكلت ملامحها وبحاجة أن تحط الحرب أوزارها كي يتبيّن حجم كارثيتها ويسمع صوت عويلها.

‏حركة الهجرة الأولى كانت عددية أكثر من كونها نوعية والكمّ لم يكن منتقى. هنا نذهب إلى أزمة أخرى وهي "التمييز العرقي"، لكن، العددية منها على تناقضاتها حلمت بوطن قومي وبمستقبل واعد وهذا أيضًا مهدّد بشكل جدي وهذه سرديتّهم الحالية إجمالًا. الدعاية الجاذبة أسقتطها المقـاومة على مدار عقود من المواجهة، لتُسقِط معها مفهوم "الفوز بمعركة السردية" الأهم لدى الصهايـنة والتي تكلفهم مبالغ طائلة. إذاً ما بالكم بالنوعي الذي ينظر إلى "إسـرائيل" ككيان استثماري وهذه طبيعة يهودية متأصلة تاريخيًا بهم. الدراسات المعمّقة لتركيبة الكيان تصل بك إلى نتيجة واحدة لا ثاني لها هي "الكيان يعني مستوطن" لذا لا أحد يستطيع أن ينقذه من نفسه "لا أساطيل ولا جيوش أو غيرها" طريقة تفكيكه حاجة كمفهوم "استراتيجي" باعتباره مركب كأي شيء مسبق الصنع.

ج - المستوطنون هم "حجر زاوية الكيان" سواء كانوا من أصحاب اختصاصات علمية، أطباء، مهندسون، محامون وغيرهم كما أنه، الجيش، الأمن، العامل، المعلم، التاجر وغيرهم، هؤلاء هم الكيان إضافة الى أنهم ليسوا أصحاب أرض وهم في قرارة أنفسهم يعلمون ذلك جيدًا وهنا نعرّج على المؤرخ اليهودي "إيلان بابيه" في كتابه "عشر خرافات عن إسـرائيل" أولها (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض) هذه أول بروباغاندا صهيونية، تفاجأ بكذبتها المهاجرون الأوائل حيث وجدوا شعبًا في فلسطين، وهذا الشعب مع باقي الدول التي احتلوا قسمًا منها منذ 1948 وبعد حرب 1967 يقاتل منذ أكثر من خمسة وسبعين عامًا بطرق مختلفة، اليوم هذه الكذبة انكشفت، لتصبح المعادلة أن الأرض ليست بلا شعب، بل إن شعب هذه الأرض يجرعهم سوء العذاب وعدم الإطمئنان والبدء بالتراكم التكتيكي يقضي على إمكانية أن يكون لهم مستقبل بها.

د - "الدولة والشعب" هنا بيت القصيد، الدولة بنخبها الحاكمة تختلف رؤيتها عن المستوطن، الدولة خياراتها محدودة ومنها الانتحار، المستوطن يملك ترف الهجرة بحسابات مختلفة عن منطوق الدولة وهذا ما بدأ بالفعل بعد طوفـان الأقصى، وهذا لهم أكثر إيلامًا من أكبر صاروخ على أهميته لأن "الهجرة المضادة" حسب "دايفيد بنغوريون" هي من علامات تداعي الكيان.

٢ - المقــاومة:

أ - السابع من أوكتوبر أماط اللثام عن عجز واضح في المواجهة والمبادرة، وأظهر الوهن السابق الذكر، لا بل جعل المعركة كارثة حقيقية على الكيان بكلّ أوجهها وتفرعاتها التكتيكية، لأنه أحيا فكرة المواجهة الشاملة، كتهديد ليس بيد الغرب، بل بأيدي المقـاومين على امتداد جغرافيا تواجدهم، وما جعجعة الغرب إلا صوت دون طحين، وهذا واضح لأيّ قارئ لما بين سطور ردود الفعل الغربيّة الخجولة، المخيبة لآمال العدو.

منذ أن تغيّر تكتيك الصراع ليتحول إلى حروب عصابات تسمّى بالحروب "غير المتماثلة" وجدنا أن النقاط التكتيكية تسجل بتسارع لانتصارات تراكمية من منطلق ثابت أن المعارك مع العـدو "ليست جغرافية" بل استنزافية. لماذا استنزافية عسكرية مرافقة لحملات ممنهجة على جبهته الداخلية؟ لأن الوعي التاريخي وإعادة الصياغة التكتيكية المتطورة للصراع ولدت آليات ذات أبعاد ما بعد العسكرية التلقائية كمفهوم ردعي محض، ما أدى إلى أمرين، الردع الحامي والهجوم النوعي على مرتكزات الكيان البنيوية مع تطوّر بمجالات عدّة لدى المقاومة على المستوى الاستخباراتي الاستعلامي، والأهم التأهيل لقيادات سيبرانية وتصنيعية عسكرية ما يجعل المقـاومة كتلة كاملة التجهيزات لشتى الوظائف، لذا نحن نرى مشهد اليوم على هذا النحو من الخشيّة لدى العـدو والإرباك للمشغلين وكله من خلال رسائل تحذيرية متنها ثابت كانت كفيلة بإعادة حسابات وتغيير سلوكيات كما المشهدية اليوم.

"إسرائـيل" آخر كيان استيطاني إحلالي في هذا العالم بمفهومه الانطولوجي بدأ بالاندثار، ليحل محله مفهوم مختلف لأصحاب الأرض، تطوّر ليقارب الصراع بضرب المرتكزات الأبعد من الجيش والعسكرة، ليشكّل فتكًا أكثر رعبًا وأنجع استراتيجيًا بالتكتيكات المتبعة، لنصبح بتجرّد على طاولة شطرنج، نقارع بها أفكارنا المتطورة وتصوراتنا المتقدمة، والعـدو تحت معبد شمشوم وخياره، ولا مبالغة في ذلك.

جرائم الحرب

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات