آراء وتحليلات
العراق في ظلال القضية الفلسطينية: يوم القدس أساس
انطوت الاستعدادات والتحضيرات العراقية المبكرة لإحياء يوم القدس العالمي على رسائل مهمّة وعميقة، لا سيما أنها جاءت في خضم ظروف وأوضاع حافلة بالكثير من المخاطر والتحديات التي تواجه العراق ودول المنطقة على وجه العموم، وقد تكون معركة "طوفان الأقصى" بكلّ أبعادها وجوانبها وتجلياتها وتداعياتها، مصداق واضح ومثال شاخص على حجم وطبيعة تلك المخاطر والتحديات.
ولعل الحديث عن يوم القدس العالمي من زاوية عراقية، يرتبط ببعدين أساسيين، الأول يتمثل في أنَّ العراق كشعب ارتبط بالقضية الفلسطينية ارتباطًا حميمًا وعضويًا في كلّ مراحلها ومنعطفاتها، بدءًا من يوم الاغتصاب الرسمي لفلسطين في 15 أيار - مايو 1948، مرورًا بحروب 1956 و1967 و1973، وما تخللها وتبعها من وقائع وأحداث في العقود اللاحقة، وصولًا إلى معركة "سيف القدس" التي اندلعت قبل حوالي ثلاثة اعوام، ومن بعدها معركة "طوفان الأقصى" التي ما زالت متواصلة منذ ستة شهور.
وفي واقع الحال، لم يكن العراق غائبًا أو منزويًا وبعيدًا في كلّ تلك المحطات، بل كان دومًا في المقدمة. وحين نقول العراق، فليس المقصود هنا النظام السياسي والسلطة الحاكمة حصرًا، إنما الزعامات الدينية والنخب السياسية والثقافية والفكرية والشرائح والفئات الاجتماعية المختلفة.
ربما تكون السلطات الحاكمة قد تهاونت أو تخاذلت أو ساومت، ولم تسجل المواقف المشرفة المطلوبة في بعض الأحيان، بيد أن الشعب العراقي ونخبه السياسية والثقافية والاجتماعية، سجلوا مثل تلك المواقف لدعم ومساندة ونصرة الشعب الفلسطيني المظلوم.
ويكفي أن نستحضر هنا الفتوى التاريخية الشهيرة للمرجع الديني الراحل السيد محسن الحكيم في عام 1967، والتي أجاز فيها دفع الحقوق الشرعية للمقاومة الفلسطينية لمساعدتها على التصدي للكيان الصهيوني. وكان لتلك الفتوى أثر معنوي ومادي كبير في تعزيز جبهة المقاومة.
وإلى جانب المشاركة العسكرية العراقية في المعارك ضدّ الصهاينة، كان العراق من بين أكثر الدول التي ساهمت في احتضان الفلسطينيين ورعايتهم ومساندتهم سياسيًا وإعلاميًا، بصرف النظر عن السياسات الخاطئة لنظام الحكم البعثي في العراق خلال سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، والتي أضرت كثيرًا بالقضية الفلسطينية وأضعفتها، ووفرت المناخات والأجواء الملائمة للكيان الصهيوني ليعزز هيمنته ونفوذه ويتمادى في سياساته العدوانية ضدّ الشعب الفلسطيني. وقد ساندته في ذلك قوى إقليمية ودولية، لعلّ أبرزها نظام الشاه محمد رضا بهلوي في إيران، الذي أطاحت به ثورة شعبية عظيمة قادها آية الله العظمى الإمام الراحل روح الله الخميني قدس سره في عام 1979.
أما البعد الآخر، فقد تمثّل بخصوصية العلاقة بين صاحب مبادرة يوم القدس العالمي، الإمام الخميني قدس سره والشعب العراقي، فالإمام عاش في العراق ما يقارب الخمسة عشر عامًا، ترك خلالها بصمات واضحة على الصعد الدينية والفكرية والثقافية والسياسية، وخلّف أثرًا طيبًا لدى كلّ من تعامل معه وعرفه وسمع عنه.
لم يكن الإمام الخميني مجرد باحث عن مأوى وملاذ آمن هربًا من بطش نظام الشاه في طهران حينذاك، بل كان صاحب مشروع عالمي للإصلاح والتغيير، وكانت الساحة العراقية إحدى الساحات التي تحتاج إلى إصلاح وتغيير حقيقيين، إذ برزت أسماء لامعة تصدّت لتلك المهمّة، لعلّ في مقدمتها الشهيد السيد محمد باقر الصدر، ومعه ثلة من تلامذته ومريديه ورفاقه في الحوزة العلمية والحركة الإسلامية.
وفي ظلِّ هذه الأجواء والمناخات، عكف الإمام الراحل على مواصلة مشروعه الإصلاحي التغييري الشامل، الذي يخطئ من يتصوَّر أنه كان يستهدف إطاحة نظام الشاه والاستحواذ على السلطة فحسب. لان ذلك الأمر مثَّل مفردة واحدة من بين مفردات كثيرة في المشروع العالمي الّذي شكلت القضية الفلسطينية أحد أبرز واهم محاوره ومرتكزاته.
لذلك، لم يك غريبًا أن نجد أنّ إحدى أولى الخطوات التي اتّخذها الامام الخميني بعد انتصار الثورة الإسلامية، هي إغلاق السفارة الإسرائيلية في طهران وجعلها سفارة لدولة فلسطين. وقد ترافقت معها مبادرة يوم القدس العالمي في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك من كلّ عام، لإظهار أقصى أشكال ومظاهر الدعم والإسناد للشعب الفلسطيني.
وجاءت المرحلة الأخرى في مسيرة العلاقة بين الإمام الخميني والشعب العراقي بعد انتصار الثورة الإسلامية في ربيع عام 1979، وهجرة وتهجير أعداد كبيرة من العراقيين إلى الجمهورية الإسلامية، بسبب السياسات الطائفية والعدوانية الظالمة لنظام حزب البعث حينذاك.
وخلال تلك المرحلة، تعمّقت العلاقة وترسّخت إلى حد كبير، عبر الرعاية والاهتمام البالغين اللذين أبداهما الإمام الراحل بالعراقيين المهاجرين والمهجّرين، وتبني قضيتهم وإسنادها بشتى الأساليب والأدوات والوسائل، في الوقت الذي وجد العراقيون في الثورة الإسلامية أملًا كبيرًا في إحداث التغيير المنشود في بلدهم. وهنا، شكّلت القضية الفلسطينية أحد أهم وأبرز القواسم المشتركة في علاقة العراقيين مع الإمام الخميني والثورة الإسلامية.
ومنذ عام 1980 وحتّى إطاحة نظام صدام في عام 2003، لم يكن متاحًا للعراقيين إحياء يوم القدس العالمي في بلدهم، بيد أنّهم سجلوا حضورًا فاعلًا ومؤثرًا وملموسًا في الكثير من المحافل التي كان لهم وجود فيها، مثل أوروبا وأميركا وأستراليا وسورية، فضلًا عن إيران نفسها. وقد أطلق العراقيون من خلال الفعالية السنوية ليوم القدس العالمي، وعلى امتداد 23 عامًا، رسائل مهمّة وبليغة ومؤثرة، عزّزت ورسخت المواقف التاريخية العراقية المختلفة في دعم القضية الفلسطينية وإسنادها.
وبعد الاطاحة بنظام صدام في عام 2003، باتت شوارع العراق ومدنه المختلفة ميادينا لإحياء يوم القدس العالمي وإظهار كلّ أشكال الدعم المعنوي والمادي لأبناء الشعب الفلسطيني، ومن الطّبيعي جدًا أن تكون مناسبة يوم القدس العالمي من كلّ عام فرصة لاستذكار الإمام الخميني، كصاحب مشروع إصلاحي تنويري مثلت مدينة النجف الأشرف أحد أبرز محطاته، وكقائد وزعيم ثوري عالميّ نجح بقلب موازين القوى لمصلحة الفئات المحرومة والمستضعفة وبالضد من مشاريع وأجندات قوى الشر والاستكبار والاستبداد العالمي.
وعلى ضوء ذلك، من الطّبيعي جدًا أن تكون ثلاثية "العراق - فلسطين - الإمام الخميني" حاضرة في مناسبات مهمّة مثل يوم القدس العالمي، هذه الثلاثية التي ما زالت تعنى الشيء الكثير والكبير بالنسبة إلى العراقيين، ولعلَّ هناك أربع مفردات نجدها حاضرة لدى العراقيين، جماهير ونخبًا، عند تعاطيهم مع يوم القدس العالمي، هي الإمام الخميني، والوحدة الإسلامية، وديمومة المواجهة، وحتمية الانتصار. وكلّ مفردة من هذه المفردات تكمل الأخرى، لتنصهر جميعها في بوتقة واحدة، وتشكّل مفهومًا عامًا ورؤية شمولية. وهذا ما نجده ونلمسه ونستشعره واضحًا وجليا عبر المواقف العراقية، الرسمية وغير الرسمية، الشعبية والسياسية والنخبوية، حيال ما يحدث حاليا في فلسطين، وفي غزّة على وجه الخصوص، من انتصارات فلسطينية مشرفة، وجرائم صهيونية مروعة.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024