آراء وتحليلات
العدو يترقب الرد الإيراني: انقلاب السحر على الساحر
بصرف النظر عن حجم الرد الإيراني على العدوان الصهيوني الذي استهدف القنصلية الإيرانية في دمشق، فهو - وفقًا لتوقع العدوّ بحصول ضربة صاروخية أو بالمسيّرات البعيدة المدى ضدّ أهداف إسرائيلية - سيُعدّ أول دخول عسكري إيراني على خط القتال المباشر مع العدوّ الصهيوني. إلى ما قبل الغارة الإسرائيلية، كانت الجمهورية الإسلامية تقوم بدور الإسناد لفصائل المقاومة عبر تجهيزها وتدريبها وتقديم كلّ أنواع المساعدة اللوجستية والتقنية وغيرها، إضافة إلى الدعم السياسي الصريح. بعد الغارة، هناك مرحلة أخرى لا نعلم بعد مداها ومنتهاها، لكنّها تكثّفُ حضور شبح إيران على كيان الاحتلال بدلًا من إبعاده.
وعلى ضوء الرد، ترتقي الجمهورية الإسلامية درجة جديدة في سُلّم الصراع الوجودي مع الكيان الصهيوني، وسيعزز ذلك مصداقيتها في نظر الشارع الإسلامي والعربي، في وقت بانَ العجز الكامل للأنظمة المعنية عن اتّخاذ خطوات جدية لمجابهة المذبحة الهائلة التي تُرتكب في غزّة.
سوء تقدير
وفي هذا الإطار،
ويمكن أن يُعزى الصدام العسكري الأول بين إيران والكيان الصهيوني إلى طغيان "فائض القوّة" الجوية الذي يشعر به العدوّ مسنودًا بدعم أميركي سياسي وعسكري واستخباراتي مفتوح. وأدى الاستطراد في استخدام هذا الفائض إلى الوقوع في أخطاء متتالية قامت على الاعتقاد بإمكان إنزال هزيمة عسكرية ساحقة بالمقاومة في قطاع غزّة من خلال التدمير المنهجي للمباني على رؤوس ساكنيها حيث لا يزال الآلاف مدفونين تحت الأنقاض منذ شهور، مرورًا بتوسيع نطاق العمليات لتشمل مناطق بعيدة عن خطوط المواجهة في لبنان وسورية، وصولًا إلى قصف مقر دبلوماسي إيراني في دمشق. وقد عبّر قادة العدوّ عن هذه الثقة المفرطة بـ "الذراع الطويلة" من خلال الحديث عن إمكانية الوصول إلى كلّ مكان ابتداءً من لبنان وصولًا إلى إيران. وقد أشار الإمام الخامنئي إلى عواقب هذه الغطرسة الصهيونية بقوله أمام المسؤولين الإيرانيين يوم الأربعاء: "إن الصهاينة قد أوقعوا أنفسهم في فخ ليس بمقدروهم النجاة منه، وسيضعف الكيان أكثر فأكثر يومًا بعد يوم..".
معادلة ردع
أما عن هدف الرد الإيراني، فيمكن القول إنه يتعلق بإقامة معادلة ردع جديدة من شأنها أن تمنع العدوّ من التوسع في خياراته الحربية وتُقلل من قدرته على المناورة، وهذا يوجه ضربة متجددة لقدرة الردع لديه، وهو الذي اعتقد أن مرحلة ما بعد 7 تشرين الأول ستكون فرصة لتكوين واقع جديد يسمح له بالسطو على المنطقة وتخويف الجميع بتعميم نموذج الدمار في غزّة وتنفيذ الحملات الجوية في غير اتّجاه. وفي التقديرات، أن الرد الإيراني لن يعطي العدوّ فرصة لأخذ المنطقة إلى حرب يعرف سلفًا أنه سيدفع أثمانها الباهظة إن غامر بالمضي في ركوب موجة التصعيد. ويؤمَل أن ينعكس ذلك على كيان الاحتلال في خفض طموحاته وسقف شروطه في غزّة أيضًا، لا سيما بعد إدراك الولايات المتحدة راعيته الرسمية أنه يستنزف الرصيد الأميركي ويخاطر بتوريط الولايات المتحدة في حرب ليست من أولوياتها.
وقد حرصت الإدارة الأميركية على إرسال تأكيدات لإيران بأنها لم تكن على علم مسبق بقرار "إسرائيل" قصف القنصلية الإيرانية، وأضافت القيادة العسكرية الأميركية إلى ذلك بأن الغارة تشكّل مجازفة بتجدّد الهجمات على مواقع قواتها في العراق وسورية. ولوحظ في هذا الإطار أيضًا أن اتّصال بايدن بنتنياهو يوم الخميس اتسم بـ "إنذار" من الأول للثاني بتغيير نهجه الحالي وتحسين ملامح الحملة العسكرية في غزّة على صعيد تحقيق وقف مؤقت للنار والسماح بالتوصل إلى اتفاق تبادل للأسرى والمحتجزين وتمرير إمدادات إنسانية، وإلا قد يفقد بعض الدعم الأميركي للحرب الحالية. ويأتي ذلك مع اشتداد الضغط على إدارة بايدن من داخل الحزب الديمقراطي والقاعدة الناخبة المؤيدة له، بسبب افتقاره إلى الحزم في مواجهة التعنت الإسرائيلي الذي يلحق ضررًا بالغًا بصورة الولايات المتحدة ودبلوماسيتها العامة.
التهديد والفرصة
تشبه هذه المرحلة من بعض الوجوه ظروف اغتيال اللواء قاسم سليماني وصحبه مطلع العام 2020. في تلك الآونة، كان الهدف الأميركي ردع الجمهورية الإسلامية وضرب حضورها في العراق والمنطقة، وقد حوّلت طهران هذا التهديد إلى فرصة عبر رد عسكري مدروس أعادت فيه تثبيت معادلة ردع قوية في وجه الأميركي. وبالمثل، كان اغتيال قائد قوة القدس في سورية ولبنان اللواء محمد رضا زاهدي ونائبه ورفاقهما داخل القنصلية الإيرانية في دمشق ذروة مسعى صهيوني لإنهاء الحضور الإيراني في سورية بعنوان منع التمركز الإيراني الداعم للمقاومة في لبنان وفلسطين. لكن هذه العملية الإرهابية الخارجة على قواعد السلوك الدولي ارتدّت على العدوّ وكانت بمثابة انقلاب السحر على الساحر، حيث قررت القيادة في إيران عكس الصورة وتحويل هذا التهديد إلى فرصة لإرساء معادلة ردع ونقل العدوّ من موقع الهجوم إلى الدفاع وتقويض سلوكه العدواني. ويأتي ذلك في لحظة تفاقم المأزق العسكري الصهيوني في قطاع غزّة وتكثيف الضغوط الخارجية على الاحتلال بعد افتضاح إجرامه على المستوى الدولي بشكل غير مسبوق.
ويدفع هذا الموقف إلى "دَوْزنة" الرد الإيراني شكلًا ونوعًا بحيث يسمح بإحباط أهداف العدوّ ومنعه من تشكيل فرصة مضادة لإعادة تجديد الإئتلاف الغربي حوله أو تحقيق غايته الأبعد في جرّ الأميركيين إلى حرب مباشرة مع إيران، وهو الهدف الذي لطالما عمل عليه نتنياهو شخصيًا منذ عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، حين هدّد مرارًا بتنفيذ هجوم على المنشآت النووية الإيرانية إن لم تقم الولايات المتحدة بتعطيل برنامج إيران النووي و"وضع الخيار العسكري فوق الطاولة" في مواجهة إيران.
أخيرًا، ثمة عِبرة هامة في كلّ ما يحصل وهي أن
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024