آراء وتحليلات
بين بلينكن وكيسنجر.. هوّة في صناعة السياسات الأميركية الخارجية
في أحد الكاريكاتورات العالمية التي أذكرها من كتاب التاريخ، صورة لنابليون الثالث وهو يضع على رأسه تاج جده نابليون الأول وقد وصل التاج ليغطي عينيه، فيقول معلقًا: "لقد كان رأس جدي أكبر من رأسي بكثير". وهذا ما نراه بالتحديد في صناعة الدبلوماسية الأميركية حين نقارن بين هنري كيسنجر الذي لقب بـ"ثعلب السياسة الأميركية" وبين أنطوني بلينكن "نعجة زمانه". بمعنى أن بلينكن هو رهين العباءة التي قرر العمل بظلها بعد أن أعلن أنه يهودي وأن مصلحة "إسرائيل" هي الأولى بالنسبة له في المرحلة الحالية، في ما كان كيسنجر يرتدي العباءة الأميركية خلال قيادته للسياسة الخارجية الأميركية لسنين طويلة، وإن كان من خلال استشاراته وتوصياته بعد اعتزاله العمل الحكومي، ولكنه عمل بنفس كصهيوني متمترس في ظلّ "الدولة العظمى".
في نظرة واقعية للأمور وطرق العمل، لم يتجه هنري كيسنجر يومًا للإعلام أو للعالم ليعلن وفاءه للدولة الصهيونية انطلاقًا من يهوديته، بل حتّى أننا لم نقرأ يومًا أنه تفاخر بها أو أتى على ذكرها، إلا عندما كتب قصّة حياته، أو سيرته الذاتية، والتي تحدث فيها بموضوعية عن تاريخ عائلته الألمانية التي هربت إلى الولايات المتحدة في العام 1938 وكان يومها في الخامسة عشر من العمر. اهتم كيسنجر بإدارة عمله السياسي من خلال المعرفة، التي اكتسبها في عمله في وكالة الأمن القوميّ الأميركي والتي وسعت إطلاعه حول السياسة العميقة للنظام الأميركي. وبالتالي فقد كان كيسنجر ابن النظام الأميركي العميق، وقَبِل أن يستلم وزارة الخارجية الأميركية. وإن كان تسلسل وزير الخارجية الأميركي الحالي، انتوني بلينكن، في المناصب يشابهه، فقد عمل كمستشار للأمن القوميّ لرؤساء عاصرهم. وكلا الرجلين عاصر أكثر من رئيس أميركي، واستلما مهامهما الدبلوماسية في نفس العمر تقريبًا.
وأما الفرق بينهما فيظهر من خلال النشأة: بلينكن ولد في الولايات المتحدة، وتاريخ عائلته حافل في مجال العمل الدبلوماسي، فوالده وعمه عملا كسفيرين للولايات المتحدة في أوروبا. ووالدته كانت ناشطة في أوروبا، في فرنسا بالتحديد حيث ترعرع بلينكن برفاهية، ثمّ عاد إلى الولايات المتحدة ليتم تعليمه في هارفرد، الجامعة الأميركية "المرموقة". في ما اضطرّ كيسنجر للانضمام للجيش الأميركي قبل أن يحصل على الجنسية الأميركية، ونال شهاداته من هارفرد خلال سني عمله السياسي. ولم ينل شهادة البكالوريوس حتّى العام 1950، لكنّه تتلمذ على يد ويليام ياندل اليوت، وهو مؤرخ أميركي وكان مستشارًا سياسيًا لستة رؤوساء أميركيين.
كانت العلاقة عميقة بين كيسنجر وإليوت، الذي توفي في العام 1979، أي بعد عامين من اعتزال كيسنجر العمل الحكومي. اليوت كان يعمل في مجلس الأمن القوميّ وكان مهندس حملة ريتشارد نيكسون الجمهوري الانتخابية في العام 1960، ومع أن اليوت كان جمهوريًا، إلا أنه كان مستشارًا في وزارة الخارجية لدى الرئيسين الديمقراطيين جون اف كنيدي وليندون جونسون. وهو عميد مدرسة هارفارد الصيفية وأسس ندوة هارفارد، التي أدارها مع تلميذه النجيب كيسنجر، والتي حضرها ثلة من أهم رؤساء الدول، مثل: إيغال ألون من الكيان وياسو هيرو ناكاسوني من اليابان وبيير ترودو من كندا، وبذا يمكننا أن نفهم عمق تأثير السياسة الأميركية في هذه الدول وغيرها.
في العام 1943، خلال وجوده في الجيش وفي معسكر للتدريب في كارولينا الجنوبية، تعرف كيسنجر على فريتز كرايمر، وهو مهاجر يهودي من ألمانيا، أشار إلى طلاقة كيسنجر باللغة الألمانية وإلى ذكائه الشديد، ومع هذه المرحلة ابتدأ عمل كيسنجر في المخابرات المركزية الأميركية، إذ تطوع للعمل في المهامّ الاستخبارية الخطرة خلال معركة "الثغرة" بحسب تسمية الألمان، وهي ما يسميها الأميركيون بمعركة "الأردين"، والتي تمكّن الحلفاء بعدها بشهر ونصف تقريبًا من هزيمة الألمان والنازية في أوروبا. ثمّ طور كيسنجر خلال السنوات 1944 - 1946 عمل المخابرات الأميركية في ألمانيا واستطاع اختراق الغستابو، أي المخابرات الألمانية النازية.
هل كان كيسنجر بطلًا قوميًا أميركيًا؟ يعتبر كيسنجر أن تجربته في الجيش "جعلته يشعر بأنه أميركي". وحتّى بعد انتهاء عمله في ألمانيا كعسكري استمر كمدني بالعمل مع المخابرات المركزية كمدرس فيها. أي كيسنجر ليس ابن المؤسسة الأمنية الأهم في الولايات المتحدة، بل هو صانع أجيال فيها. ولذلك من خلال تاريخ كيسنجر الطويل يمكننا فهم عجز الخارجية الأميركية بقيادة بلينكن عن إدارة المعركة الدبلوماسية والسياسية في غزّة بعد "عيد الغفران" 2023، في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، في حين كان كيسنجر أقدر على قيادة المعركة السياسية والدبلوماسية في السادس من تشرين الأول/ أكتوبر في العام 1973. وكانت تلك المرحلة الأساسية من بناء السياسات التي هندسها في منطقتنا والعالم، فكيسنجر مؤمن بأن: "الدولة التي تطالب بالكمال الأخلاقي في سياستها الخارجية، لن تحقق لا الكمال ولا الأمن".
أدار كيسنجر اللعبة بحنكة، ويمكننا من خلال إدارته للملفات المعضلة التي أرّقت وتؤرق الولايات المتحدة اليوم، مثل المواجهة مع الصين في عهد ماوتسي ومع الاتحاد السوفياتي وبدأ معاهدات السلام مع مصر، بعد أن أوقف التدخل العسكري الأميركي لمساندة الكيان في بداية المعركة ليجبره على الذهاب وتوقيع المعاهدات، بعد أن ذاق الخسارة وصدمة حرب تشرين التحريرية 1973. وبعد الثورة الإسلامية في إيران أدار كيسنجر الملفات المتعلّقة بالمواجهة مع الجمهورية الإسلامية في إيران والملف النووي، ووجه توصياته في ما يتعلق بالملف النووي الإيراني عن بعد، وخلال حديث لشبكة "سي ان ان" في العام 2015، أوصى بأن: "يتعين على الولايات المتحدة أن تفترض أن إيران منخرطة بشكل ناشط بالإعداد لإنتاج الأسلحة النووية"، وهو نفس العام الذي أبرم فيه الاتفاق النووي مع الجمهورية الإسلامية في إيران من جهة وما بين مجموعة الخمسة زائد واحد.
وكما كيسنجر، لا يؤمن بلينكن بالكمال الأخلاقي في العمل الدبلوماسي. ويرى الأخير أن العمل الدبلوماسي يجب أن يترافق بقوة الردع، ومن أقواله في هذا الشأن: "القوّة يمكن أن تكون عنصرًا مساعدًا وضروريًا للدبلوماسية الفعالة"، وهو لا يتحدث عن القوّة التي يجب أن تتمتع بها الولايات المتحدة لحماية نفسها، إذ يتابع فيقول: "في سورية، سعينا صائبين إلى تجنب تكرار تجربة العراق من خلال عدم القيام بالكثير، لكننا ارتكبنا الحطأ المتمثل في عمل القليل جدًا"! فكلّ ما فعلته الولايات المتحدة في زمن باراك أوباما، وشغل بلينكن حينئذ منصب مستشار الأمن القوميّ، من إنشاء "داعش" وتسليحها وتسهيل الطريق لها لتمر إلى الشام عبر كردستان العراق حيث تتواجد القاعدة الأميركية في عين الأسد، وقصف الرقة في سورية وتسوية معظم مناطقها بالأرض بواسطة المقاتلات الأميركية، وقتل الناس في سورية والعراق بدم بارد وارتكاب الجرائم والسرقات، ومع ذلك فهذا قليل بالنسبة له.
صحيح أن بين كيسنجر وبلينكن تشابه كبير، ولكن في العمل والتنشئة والانتماء السياسي هناك اختلاف كبير بين الاثنين. فالأول جمهوري والثاني ديمقراطي، كما أن هناك اختلافًا في العمق، إذ يكفي أن نقول إن الأول أحد واضعي ركائز السياسة الأميركية منذ السبعينات وحتّى يومنا هذا، بينما الثاني ينتمي لمجموعة من الإدارات التي قامت بمتابعة السياسات. فبعد تولي كيسنجر منصب وزارة الخارجية في عهد ريتشارد نيكسون، ورث جيرالد فورد مجلس وزراء نيكسون مجتمعًا. وكان يومها دونالد رامسفيلد رئيس موظفي البيت الأبيض ومستشارًا في عهد نيكسون، ثمّ أصبح نائبًا لرئيس الموظفين وتولى منصبه ديك تشيني المعروف بأنه الأقوى نفوذًا في حكومة فورد، وشغل كيسنجر المركز الأهم وهو منصب كبير الدبلوماسيين الأميركيين، أي وزير الخارجية، ومستشار الأمن القوميّ الأميركي، وهو المنصب الذي منحه النفوذ المطلق على السياسة الخارجية خلال فترة الرئيسين نيكسون وفورد. هؤلاء الأشخاص كانوا مهندسي الحرب على العراق وعملوا بتوصيات برنارد ليفي التي وضعها في العام 1954، والذي أوصى بالعمل على إعادة تقسيم الشرق الوسط وصولًا إلى الربيع العربي وبناء الشرق الأوسط الجديد القائم على تقسيم الشرق الأوسط إلى كانتونات عرقية وطائفية، والتي أسقطها انتصار تموز 2006 في لبنان. وخلال جميع العهود السابقة بقي كيسنجر صانع السياسات الخارجية الأميركية مستشارًا للرؤساء الأميركيين وصولًا إلى جو بايدن.
رحيل رجل مثل كيسنجر ترك الإدارة الأميركية تتخبط، وعلى العالم أن يعلم أن هذا التخبط الذي تعاني منه هذه الإدارة سيستمر حتّى زمن ليس باليسير. ومن هنا يمكننا أن نفهم سبب ضعف إدارة بايدن في معالجة الملفات الحساسة مثل ملف روسيا، الذي اعترض عليه كيسنجر بقوة، ويتوافق معه فيه دونالد ترامب، الذي صرح في مناسبات عدة أنه لم يكن ليذهب إلى حرب مع روسيا وأن بايدن أخطأ في إدارة الملف وأنه سيذهب لإدارته بطريقة مختلفة إذا ما تم انتخابه كرئيس لأميركا مرة أخرى. الأمر لم يكن مجرد لعبة انتخابية، بل هي توصية من كيسنجر. وأما في الملف الصيني فالاستفزازات الأميركية للصين في تايوان لن تمنح أميركا السلطة على إدارة البحار والتجارة العالمية فيها. فلقد ذهبت السياسة الخارجية الأميركية إلى حد السب، فللمرة الثانية يتهم بايدن شي جين بينغ بأنه ديكتاتور، المرة الأولى كانت في الشهر الحادي عشر من العام الماضي، خلال لقاء بايدن مع رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا، على هامش إعلان خطط للتعاون العسكري بين البلدين ومشاريع بناء قواعد صاروخية تمتد في اليابان، مما استفز الإدارة الصينية، واعتبرت الناطقة باسم وزارة الخارجية الصينية ماو نيننغ بأن بلادها تعرضت "للتشهير والهجوم".
وأما التخبط في ملفات الشرق الأوسط فحدث ولا حرج، إذ يكاد الملف الفلسطيني يدير العملية الانتخابية في الولايات المتحدة في تشرين الثاني/ نوفمبر القادم. فالمقاومات متأصلة في منطقتنا والعالم، ولكن الإدارة الأميركية الحالية غير قادرة على استيعاب التغيير الذي طرأ في بلادها وبلاد العالم بسبب الانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي، وكيف أن السحر انقلب على الساحر. بعد أن سخرها باراك أوباما لخدمة المشروع الأميركي في العام 2011، بقيادة دبلوماسية مخضرمة مثل هيلاري كلينتون، لم يستطع رجل الإعلام "من الدقة القديمة" بلينكن وضع خطط تتماشى مع التغيير الذي يحدث في العالم، ولم يستطع وضع خطط للسياسة الخارجية تعيد لأميركا تألقها، بل على العكس يسير بها نحو الحضيض. وللأسف ما زال الكثيرون في منطقتنا غير قادرين على الاستفادة من الواقع الجديد في أميركا ويركضون متخبطين وراء دولة باتت تعاني من نقص في رجال السياسة فيها ويتصرف قادتها وكأنهم "نيرون" العصر الحديث.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024