آراء وتحليلات
الردّ الإيراني: قراءة في النتائج الجيوسياسية إقليميًا ودوليًا
بعد ثلاثة عشر يومًا على العدوان على قنصليتها في دمشق، نفذت الجمهورية الإسلامية الإيرانية ردّها العسكري الذي وعدت به، فكانت ليلة الرابع عشر من نيسان/ابريل فارقة في تاريخ الكيان الصهيوني منذ إنشائه، وليلة فارقة في تاريخ المنطقة والعالم.
التخبط السياسي والإعلامي والعسكري كان السمة الأبرز للكيان الصهيوني ولداعميه الغربيين والإقليميين قبيل الرد الإيراني وخلاله وبعده، خاصة أن دولًا عدة شاركت هذا الكيان في محاولات التصدي للهجوم الإيراني الدقيق والمنسق والمبهر. ووفقًا لمصادر اسرائيلية وغربية، فقد شاركت كلّ من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والأردن إلى جانب "إسرائيل" في محاولات التصدي للهجوم الإيراني.
ولم تستطع حملة التضليل الإعلامية الهائلة والمنسقة والتي تم إعدادها قبل الهجوم الإيراني وشاركت فيها الكثير من وسائل الإعلام العربية والإقليمية وحملات الذباب الإلكتروني على مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام الرقمي، التخفيف أو إخفاء حقيقة الرد الإيراني ونتائجه العسكرية والكارثية على الكيان الصهيوني.
وعند الحديث عن نتاىج الرد العسكري الإيراني، فإنه لا بد لنا من الإشارة بشكل رئيسي إلى نتائجه الاستراتيجية والجيوسياسية الإقليمية والدولية والتي من الصعب حصرها واستكشافها في هذه المرحلة ويحتاج الكثير منها إلى وقت للظهور، غير أنه يمكننا التعريج على بعض تلك النتائج الأولية والتي يمكن اختصارها بالآتي:
• الأميركي ابتلع الضربة الإيرانية
جاء الرد الإيراني ليؤكد عمق المأزق الأميركي بفعل تراجع النفوذ والهيمنة الأميركية على الصعيد العالمي وفي الإقليم تحديدًا منذ انطلاق "طوفان الأقصى" وانسداد الأفق في وجه الولايات المتحدة المهدّدة بخسارة نفوذها وتواجدها الإقليمي، وهو ما اضطرها لابتلاع الرد الإيراني والتمنع عن مهاجمة إيران بشكل مباشر والاكتفاء بموقف دفاعي عسكري وسياسي لصالح الكيان الصهيوني والتملص من تبعات مواقف "تل أبيب" واستجداء التهدئة، وبالمختصر فإن الرد الإيراني كشف عورة واشنطن على الصعيد الإقليمي والعالمي.
• الكيان الصهيوني
لم تستطع أنظمة الدفاع الجوي لكل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا و"إسرائيل" والأردن وبمساندة دول أخرى أن تمنع بعضًا من الصواريخ الإيرانية من دكّ المواقع والمطارات العسكرية للكيان الصهيوني على الرغم من علمهم بموعد الهجوم وامتلاكهم لأحدث التكنولوجيا العسكرية في العالم، ولعلمهم بأن إيران لم تستخدم سوى جزء يسير من القوّة والتكنولوجيا العسكرية التي تمتلكها، فإذا كان هذا حالهم مع ذاك الجزء اليسير فكيف بهم إن كشّر الليث الإيراني عن أنيابه؟ لهذا السبب فإن الإسرائيلي وجد نفسه مضطرًا لتجرع الهزيمة بذل.
ورغم محاولاته المضللة لإخفاء نتائج الهجوم الإيراني، فإن التسريبات المتعددة التي صدرت عن عدة مسؤولين غربيين أكدت بعضًا من خسائره الكبيرة على الأرض، ومن ذلك ما صرح به مسؤول أميركي كبير لشبكة "ABC News" من أن تسعة صواريخ إيرانية على الأقل اخترقت الدفاعات الجوية الإسرائيلية وأصابت قاعدتين جويتين إسرائيليتين، خمسة صواريخ باليستية أصابت قاعدة "نيفاتيم" الجوية، مما أدى إلى إتلاف طائرة نقل من طراز "سي - 130" ومدرجًا ومنشآت تخزين فارغة، وأربعة صواريخ باليستية إضافية أصابت قاعدة النقب الجوية.
"إسرائيل" للمرة الأولى في تاريخها تجد نفسها في مأزق كبير بين الردّ على الهجوم الإيراني وعدم الردّ، وكلا الخيارين مميت بالنسبة لها، ولذلك فهي تبحث عن رد يشبه اللّارد لعلها تحفظ ماء وجهها المهدور، ولات حين مناص، فالقرار الإيراني حاسم بسحق أي محاولة إسرائيلية للهروب إلى الأمام.
• الأردن
واحد من أكبر الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبها النظام الأردني في تاريخه تمثت بمشاركته في الدفاع عن الكيان الصهيوني عبر التصدي بشكل مباشر للمسيّرات والصواريخ الإيرانية وإفساح مجاله الجوي للقواعد والطيران الأميركي والفرنسي والبريطاني للدفاع عن "إسرائيل".
النظام الأردني وضع نفسه بموضع العداوة مع شعبه ومع الفلسطينيين، وليس صحيحًا أن هذا النظام قادر على التحكم بالرأي العام الأردني، فالفعل الأردني الرسمي سيحفر ليس في ذاكرة الفلسطينيين فقط، بل في ذاكرة كلّ أردني شريف وحرّ وما أكثرهم، وفي ذاكرة كلّ عربي ومسلم.
إن هذه الخطيئة الأردنية العلنية تشكّل خطرًا على الجغرافيا الأردنية التي حوّلها النظام إلى عمق عسكري وأمني للكيان الصهيوني، وعلى النظام الأردني أن يدرك أيضًا بأن خطيئته ستحوله إلى ورقة محروقة عند الأميركي والإسرائيلي بعد انكشافها العلني، ومن غير المستبعد أن يلجؤوا للتضحية به، وانطلاقًا من كلّ ذلك ومن غيره يمكن القول بأن الأردن هو الخاسر الأكبر وأنه دخل مرحلة الخطر الاستراتيجي.
• دول التطبيع العربية
لعل الولايات المتحدة كانت تدرك وقبل سنوات ومنذ سقوط مشروع "الربيع العربي" في سورية بأن معادلات الشرق الأوسط الجيوسياسية قد تبدلت على حسابها وحساب حليفها الإسرائيلي، ولمواجهة ذلك سعت واشنطن لتشكيل حلف النقب لحماية نفوذها ومصالحها في الإقليم، ولحماية الكيان الصهيوني، ولأجل تمرير هذا الحلف كان لا بد لها من إقناع عرب التطبيع بأنها و"إسرائيل" ستقومان من خلال هذا الحلف بحماية أنظمة التطبيع ودوله.
جاء "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 وجاءت بعده جبهات الإسناد، ووحدة الساحات، ثمّ الرد الإيراني الصاعق لينكشف التضليل الأميركي، فلا واشنطن ولا "تل أبيب" قادرتان على حماية حلفاء التطبيع، ولا هم قادرون على حماية أنفسهم، ولذلك يمكن القول بأن الرد الإيراني أدخل دول التطبيع في مرحلة التخبط والتيه الاستراتيجي.
• روسيا الاتحادية
واحدة من أهم نتائج الرد الإيراني أنه ساهم بتظهير العمق الاستراتيجي للتحالف الروسي الإيراني على وجه الخصوص، والذي حرص الجانبان على أبقائه خلف الكواليس على الأقل إعلاميًا، وشكلت المواقف الحازمة لموسكو وخاصة على الصعيد السياسي وفي مجلس الأمن الدولي دليلا واضحًا على علاقة الشراكة الاستراتيجية بين الجانبين والتي بدأت بالأساس بالظهور للعلن في سورية وتعمقت في الحرب الأوكرانية ودخلت مرحلة التحالف من خلال العدوان الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية والرد الإيراني الذي تبعه، وبلا شك فإن روسيا وجدت نفسها أمام مكاسب استراتيجية من خلال الرد الإيراني الذي يعتبر تحديًا للغطرسة الأميركية الغربية الصهيونية التي تحاربها موسكو وتواجهها على الساحة الأوكرانية وعلى صعيد العالم، وهذا بالإضافة إلى أن موسكو ترى أن هذا الرد سيشكّل واحدًا من أهم الأسس التي ستسهم في بناء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب لما يشكله من صفعة قوية لهيمنة القطب الأميركي الغربي الواحد.
• فلسطين المحتلة
لعل المقاومة الفلسطينية في غزّة خصوصًا هي اليوم اقرب من أي وقت مضى لتحقيق النصر وكسر العدوان الصهيوني المستمر منذ أكثر من ستة اشهر، وإجبار "إسرائيل" على وقفه بفعل الرد الإيراني الذي وضع حدا للعنجهية الإسرائيلية ولآلة العدوان التدميرية، وباتت "إسرائيل" مرغمة على التفكير بتبعات اعتداءاتها واستمرارها بالجرائم، وملزمة بالتفكير في نتائج توسيع الصراع وتطوره.
• محور المقاومة
شكل الرد الإيراني دافعًا قويًا لمحور المقاومة ومكوناته لرفع سقف المواجهة، ولرفع سقف مطالبه وتثبيت معادلات الرد وقواعد الاشتباك الجديدة، وباتت جبهات الإسناد في موقع متقدم وقادرة على إملاء شروطها واتّخاذ تدابير ميدانية وسياسية تلزم واشنطن أولًا و"تل أبيب" بإعادة حساباتها قبيل أي موقف أو تصعيد يمكن أن تلجأ إليه، وصار لزامًا على واشنطن التفكير والاستجابة لمتغيرات قواعد الاشتباك الجديدة والتفكير بشكل جدي وسريع بالانسحاب الهادئ من مناطق عدة في الإقليم لصالح محور المقاومة.
• إيران
من المهم الإشارة أولًا إلى أن الفارق بين السلوك الإيراني والسلوك الإسرائيلي هو أن إيران تتصرف كدولة عظمى لها جذور تاريخية تمتد لآلاف السنين؛ بينما تتصرف "إسرائيل" كقطاع الطرق وهي الكيان المستحدث بلا تاريخ ولا جذور ولا حقيقة تاريخية.
انطلاقًا من ذلك شاهدنا كيف سعت إيران لاتّخاذ الإجراءات القانونية وفق ما تمليه القوانين الدولية، وكان التحرك الإيراني لاستنفاد كلّ السبل التي تتيحها الأمم المتحدة وقوانينها قبيل اللجوء للرد العسكري، وهو ما ساهم بتظهير الجريمة الإسرائيلية على الصعيد الدولي وكذلك تظهير النفاق الأميركي والغربي الذي شكل عائقًا امام إدانة "إسرائيل" في مجلس الأمن الدولي وقدم لإيران المبرر القانوني من اللجوء للقوة العسكرية لمعاقبة المعتدي الإسرائيلي وفقًا للحق الذي تمنحها أياه قوانين النظام الدولي.
وبالمختصر، فإن إيران قدمت نفسها كدولة عظمى ملتزمة بالقوانين الدولية، وكدولة قوية قادرة على مواجهة أعدائها مهما بلغ حجم قوتهم وتحالفهم.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024