آراء وتحليلات
الحرب ووهم السلام (2)
ربما تتلخص قصّة مصر مع العصر الأميركي الأسود، الذي بدأ على يد السادات، وعقب حرب وصفت على نظاق واسع بأنها حرب تحريك لا حرب تحرير، وتعهد واضح قاطع فاضح بأنها آخر الحروب، في المعادلة الشيطانية الشهيرة "لا تطفو تمامًا فتطمئن، ولا تغرق تمامًا"، هي دولة تستمر في الحياة باندفاع الصدفة العشوائية وحده، لكن في الواقع هي لا تتقدّم خطوة ولا اثنين، ولا تتراجع خطوة، لكنّها من حيث هي واقفة تسقط في مكانها، وللأسفل.
دخلت مصر عصر الأوهام بخرافة العدوّ الذي لا يقهر، محمولة على انبهار نخبتها العسكرية بالولايات المتحدة الأميركية، وهو انبهار مبالغ في غلوه، وتفريطًا في حق الثقة بالنفس حد الترخص، بين غواية المساعدات الأميركية وجبن تحمل عبء الدور والقضية والمسؤولية، كانت مصر على موعد مع أحبال رخاء لا نهاية لها، وحين مرت السنوات، وقف الجميع فإذا بها حبال مشنقة قد أحكمت على الرقاب، في انتظار الوعد الحقيقي الوحيد الممكن للاستسلام.
يمكن الحكم على مسيرة السلام الصهيو - أميركي لمصر بأي شيء، خلاف أن يكون نجاحًا من أي نوع، ويمكن توقع أي شيء سوى النجاة منه بأي شكل، حتّى الفرصة الثانية في حياة الأمم والشعوب ومصائرها لها ضرورات ومقدمات منطقية وتضحيات وأثمان تبذل، في حالة مصر بالذات، فإن البلد الذي قاد حركة تحرر أمته في منتصف القرن الماضي، قد أصبح ركامًا، وكمًا مهملًا في معادلات القوّة بالمنطقة، واستمراره بحد ذاته يعتمد على جرعات مخدرة من دولارات الخليج، التي تأتي فتذهب إلى حيث الثقب الكاكي العجيب، الذي يشابه إعصارًا لا يبقي ولا يذر.
معركة "طوفان الأقصى" المباركة عرت ورقة التوت الأخيرة، التي كانت تستر عورة مصر، البلد بشقه الرسمي كله لم يهتزّ حين قصف العدوّ مرارًا وتكرارًا جانبي خط الحدود المصرية مع قطاع غزّة الجريح المحاصر، البلد –على لسان رئيسها ووزير خارجيتها - كان يتسول العالم لإدخال المساعدات إلى قطاع غزّة، عبر بوابة تقع ضمن أراضيه وفي نظاق سيادته، لكن السيادة المصرية على سيناء انكشف أنها وهم آخر، ضمن أوهام عديدة تحكم الواقع المصري، كان أهمها أن هناك حدودًا معينة لدور الساقطة، الذي أجادت أنظمة الحكم المتتابعة لعبه، بصدق وإخلاص كاملين.
يمكن سحب هذه الصورة على بقايا الأوهام الاستراتيجية المصرية من حيث الدور والأهمية الإقليمية، قناة السويس – مثلًا - التي كانت تعد ضمن هذه الأرصدة حوّلها أبطال اليمن إلى ماضٍ فات وقته وضاع زمنه، ومع الحصار البحري الذي يفرضه أسود البحر في باب المندب، هربت التجارة البحرية من قناة السويس، وطبقًا لأحدث تصريحات رئيس مجلس إدارتها –وهو عسكري سابق كالعادة - فإن دخل القناة قد تراجع 66%، خلال الشهور الست التي تلت "طوفان الأقصى"، مع تجنب كبرى شركات النقل البحري هذا الطريق تمامًا.
ومن حيث المستقبل وأوجاعه، فإن الموازنة العامة لدولة من الدول هي خيارها ورؤيتها والترجمة الصحيحة لعلائق القوى الفاعلة فيها، الانعكاس الأمين لصورة المصالح وتشابكها وحتّى صراع الطبقات فيها، والحكم البات النهائي على انحيازات النظام الحاكم فيها، ولأنها أرقام جامدة، فهي تقول كلمتها حادة كالسيف قاطعة، لا تقبل التأويلات ولا التفسيرات، ولا يشوبها ما يشوب الخطاب السياسي للأنظمة من تجمل وتزييف أو حتّى تزوير، وأخيرًا تجيب عن سؤال الحقيقة الوحيد: لمصلحة من تدار البلد، وهي حتّى تحمل رهانات النظام، أو رؤيته التي يتمناها للمستقبل القريب.
في الموازنة المصرية 2024/2025، والتي قدمت رسميًا لمجلس النواب قبل أسبوع، ومن القراءة الأولى دون الدخول في تفاصيل متفائلة بأكثر مما يحتمل الواقع أو الظروف، فإن أكبر مستفيد من الانفاق المصري هم أسياد النظام من مجمع مصالح المال العالمي، حيث ستذهب 62.1% من بنود المصروفات لخدمة الفوائد والديون وحدها، ثمّ سيبقى الفتات ستتقاسمه بقية المصروفات الواجبة على الدولة، 11.5% للدعم الاجتماعي، و10.4% لأجور كلّ موظفي الدولة، و8.9% للاستثمارات الجديدة، هذه الأرقام لا يملك الإنسان أمامها إلا الرضوخ للتعجب!
أما من أين سيأتي النظام بإيرادات لسداد ما أضاعه في غابات الأسمنت الكالحة بعاصمته التي لا يجد لها اسمًا، فإن مشروع الموازنة الجديد قد افترض أن 51% من إيرادات مصر ستأتي من قروض جديدة، بتعبير آخر، سنحصل على قروض جديدة لسداد القروض القديمة وفوائدها، ثمّ تستكمل تغذية الدائرة الجهنمية نفسها من نفسها، ولا تصبح الأسئلة المعلقة "أين؟ وكيف؟ ولماذا؟" بلتصير متى يحين موعد انفجار البركان؟
مصر التي تلفت للتو جرعتي إنعاش هائلتين لاقتصادها، كما تقول الأرقام الحكومية 35 مليار دولار من الإمارات ثمّ 8 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي، تقف الآن عاجزة أمام مطالب الدائنين، ومن المشكوك فيه أنها تستطيع الاستمرار بوتيرة السداد الحالية لنهاية العام الحالي حتّى، فالفجوة التمويلية –حتّى نهاية 2024 - تبلغ 28 مليار دولار، وحتّى إن جرى بيع مشروعات وأصول وأرواح، فإنها لا تبدو كافية للعبور إلى عام تالي أثقل في ضرائبه.
في قصّة الأرقام تبدو الحاجة لمؤشرات أخرى، تستطيع النفاذ أبعد مما تقوله الصورة العادية، تصل إلى قلب الواقع المصري الحالي، في مؤشر "متوسط الرواتب" بالدول العربية، ووفقًا لمؤسسة "فوندر باس" لتحليل التكاليف والأجور، فقد احتلت مصر المرتبة 95 عالميًا - قبل الأخيرة نيجيريا - في متوسط الأجور لمواطنيها، وهي الأقل عربيًا على الإطلاق، إذ يبلغ متوسط الأجر الشهري بها نحو 117.85 دولار فقط، هذا الترتيب مع مؤشرات التضخم والبطالة ومعدلات الهجرة غير المسبوقة تكشف ببساطة عن مصر بعد 45 عامًا من أوهام معاهدة السلام مع العدوّ الصهيوني، وبعد تسليمها 99% من أوراقها للولايات المتحدة الأميركية، بتعبير أول دجالي عصره، السادات.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024