آراء وتحليلات
بين مفهومي النصر والاستراتيجيّة التكامليّة: معادلة لبنان المقاوم تترسّخ وتنتصر
وفق عقيدة المقاومة والمباني النظريّة التي أصبحت تعبّر عنها أغلب مكوّنات محور المقاومة في أدبيّاتها وخطابات قياداتها وبياناتها: إنّ صناعة "الظفر أو النصر" على الأعداء تتعذّر أو تتعسّر ما لم تقف أيّ منظّمة بجدارة وكفاءة وفعاليّة عند فحص نقاط قوّتها وضعفها وما يحيط بها من تهديدات وفرص بالتوازي مع اكتشاف نقاط ضعف وقوّة عدوّها أو أعدائها بواقعيّة دقيقة، ثم تستتبع تلك الواقعية بمقاربة عقلانية متّسقة، مرتكزةً على حقائق ومعالجات معنويّة عميقة، وباقترابات إنسانيّة حيّة تعبّر عن هويّة مشروعها ومراميه السامية.
تُحسِنُ "العقلانيّة" توظيف تلك الواقعيّة، وتكفل "الإنسانيّة" حضور المسؤوليّة الأخلاقيّة في عمليات اتخاذ القرار، بينما تشكّل "المعنويّة" بنية تحتيّة صلبة للاستمداد والاستلهام من قوّة الغيبِ كلّ بركات التوفيق والسداد وتقليص فجوات التفوّق المادي والتكنولوجي للأعداء بشجاعة وإيمان وتوكّل راسخ، فترتسم الإضافة النوعيّة على كل سياقات الموقف من مبتدئه إلى عمليّاته ثم نتائجه ومقتضيات تقويمه واستثماره، والاستشراف المستقبليّ على أساسه، وبالنظر إلى المتغيّرات والتغيّرات كافّة.
"مفهوم النصر" و"الأنموذج المتلألئ" في مخاض الواقع
يختلف مفهوم "النصر" بحسب اختلافات المرجعيّات الفكريّة في بنائه واعتماده، ويدور مدار أطرافه، فكلّ طرف من أطراف الصراع يحدّده وفق منطقه، فإن أحرزه على مقاييسِه فقد انتصر، وإن أخفق عن إيفائه عناصر تكوينه وتحقّقه، يكون الفشلُ حصادَه.
لا معنى أن تَعثُر في الأدبيات العلميّة والكليّات الحربيّة على تعريف واحد للنصر، فقد يهمله بكلّ بساطة أحد أطراف الصراع. لأن إرادة القتال ورصيده وتكوينه وعزمه لليوم التالي، لا يُبْنى إلا على مباني أطراف الصراع "وإن تباينت"، فتتعدّد بموجب ذلك المقاربة، ويُستوفى النصر من حيث المجموع بناءً للحاصل أو الخلاصة المفيدة مما انتهت إليه كافّة جولات القتال ومخاضات التفاوض وممارسات الضغوط المتنوّعة وما احتفظ به كلّ طرفٍ من طاقة على الصمود والتحمّل ومن عناصر الاستمرار وإمكانيّات المضيّ قدمًا إلى استخلاص العِبَر وترميم القدرات والانتقال إلى عتبة ردع ونزال جديدة، وما تقتضيه من تصوّرات وممارسات شاملة.
وفي هذا الإطار، تثابر حركات المقاومة على منهجها في توكيد معادلات الردع وبناء القدرات ودفع الأخطار المحدِقة ولو استباقًا، وفتح الباب أمام سراية منطق المقاومة في الشعوب، واستئناف رفع الظلم عن كلّ من يرزح تحت الظلمِ والاحتلال والعدوان والنهب والهيمنة والاستبداد، والتركيز على المهمّة المباشرة التي تُعنى كلّ حركة من حركات المقاومة بها.
ما بين العام 2000 والعام 2024، حفرت المقاومة الإسلاميّة في لبنان حصادها وخطابها عميقًا في تاريخ الأمّة، وأرست معالم مدرستها في تقديم أنموذجٍ متلألئ كامل الأوصاف لا يزال ينضح بما فيه من إبداع وإتقان، تجاه عقيدتها ومبادئها وأهدافها وتجربتها وبنيتها وأدوارها من جهة، وتجاه وطنها ونسقها العضوي المقاوم الممتد عبر البلاد (بما بات يُعرف لاحقًا بمحور المقاومة) من جهة ثانية، وتجاه العدو بكلّ جبهاته وحروبه وتشكّلاته ومؤامراته من جهة ثالثة.
التزمت المقاومة الإسلاميّة عقيدتها ومبادئها وراكمت خبراتها لتُطوّر باستمرار بنيتها وأدوارها بملاءمة المتغيّرات والتغيّرات على هدي أهدافها، حتى استطاعت أن تصون الحقوق والمصالح وتؤمّن العزّة الوطنيّة وتحافظ على المكتسبات المعنويّة، وأن تضع حدًّا لبعض مخطّطات العدو دون انفعال سياسيّ، وأن تجهض أهدافه المباشرة وغير المباشرة في حرفها عن أولويّاتها بالفتن الداخليّة المذهبيّة والطائفيّة وباستدراجها إلى معارك مع قوى سياسيّة أو جعلها في مواجهة الجيش الوطنيّ اللبنانيّ.
بعد استعادة لبنان أراضيه دون قيد أو شرط عام 2000 بفعل المقاومة، تشجّع الجانب الفلسطينيّ على استئناف الفعل المقاوم في لحظة سياسيّة أعادت النهوض بفكرة المقاومة بعد انسداد أفق التفاوض والتسوية مع العدو الصهيونيّ، فكان التصدير الأوّل للنموذج هو انتفاضة الأقصى عام 2000 (بعد انتفاضة عام 1987)، كنتيجة لكسر إرادة المحتل وهيبته أمام ضربات المقاومة الإسلاميّة في لبنان بعدما كان حزب الله قد ساعد مبكّرًا القوى الفلسطينيّة بنقل خبراته القتاليّة إلى كوادرها، أثناء نفيها إلى مرج الزهور- لبنان عام 1992، حيث رعى حزب الله وجودهم وساعدهم ودرّب نخبتهم التي رجعت إلى فلسطين المحتلة مزوّدة بقدرات قتاليّة، ثم طوّر تعاونه بكافة المستويات في محطّات عديدة إلى أن بلغ ذروته مع مساندته المقاومة الفلسطينيّة والشعب الفلسطيني المظلوم والصامد نحو إيقاف الحرب على غزّة وإجهاض أهدافها (منذ 8 تشرين الأوّل 2023).
من جانب آخر، عمدت المقاومة إلى استدامة بناء قوّتها تحت غطاء الشرعيّة موفّرة مظلّة الحماية من الاستنزافات الجانبيّة والحيلولة دون الانغماس في الفتن والأزمات الداخليّة إلا بمقتضى الدفاع عن النفس والوجود. فاستبدلت حديث المرتهنين لإرادة المهيمِن الدوليّ عبر المطالبة بنزع سلاحها إلى الإلتزام باستراتيجيّة الدفاع الوطني عن لبنان، وثبّتت في البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة وفي الخطاب الرسمي اللبناني معادلة "الشعب والجيش والمقاومة"، مما رفدها بعناصر قوّة إلى قوّتها لبلوغ الأهداف ذات المصلحة اللبنانيّة والعربيّة والإسلاميّة العليا، ورفد الاجتماع السياسيّ اللبنانيّ بمقوّمات الاستقرار والتماسك الوطنيّ الداخليّ وبالصمود تجاه موجات التدخّل والحصار والعدوان واللعب على التناقضات الداخليّة اللبنانيّة.
عندما انفجر المشرق العربيّ وتضاربت مجموعاته الأهليّة وتوزّعت إلى كانتونات أو مخيّمات نازحين وتركت أثقالها السياسيّة على الدول الإقليميّة في إطار رسم خريطة مشرق عربيّ على أُسسٍ تعكس في جوانبها السياسيّة ما حصل من وقائع وصراعات وانفتاح على تسويات أو أزمات سياسيّة، باتت مهمّة وسياسة حزب الله بعد عام 2011 منع نشوب حروب أهليّة في المنطقة أو محاصرتها والحد من مفاعيلها.
سدّت "المقاومة الإسلاميّة" ثغرة الدور المركزي للجيش اللبناني بحفظه عزيزًا مهابًا، وتكبّدت عنه في مواجهة العدو الصهيوني وفي مواجهة المدّ الإرهابيّ كثيرًا من الأعباء والتضحيات الجسام، دون أن تصادر أيًّا من امتيازاته في احتكاره للعنف والسلطة، لذلك ظلّ يمارس كافة أدواره بهيبة وشرف، مع أقلّ التضحية، ودون أن تظهر عليه عوارض النقص في الوفاء للدولة ومواطنيها.
لقد فدت "المقاومة الإسلاميّة" الجيشَ والوطن وشعبه حتى تكرّست معادلة "جيش، شعب، مقاومة". وهي أعلى درجات الشرف والتضحية والوفاء، كاملة غير منقوصة، منحتها المقاومة الإسلاميّة للوطن كلّه دون منّة أو كلفة استخدام، وبعوائد ثمينة وباهظة، من استعادة الأرض وإنجاز الحريّة للأسرى وتأمين السيادة ونصيب من الاستقلال _لأن أجهزة الدولة وعددًا من الرؤساء والقادة والإداريين والزعماء مقيّدون بالعلاقات والاتفاقيّات والخيارات التي تبقيهم تحت تأثير الهيمنة العالميّة والإقليميّة ولا سيّما من قبل الولايات المتحدة الأميركيّة ومن يدور في فلكها من السفارات، وهذا واقع لا يجافي الحقائق ومجرياتها لكل عين لازمت الإنصاف منهجًا وسبيلًا.
استراتيجيّة تكامليّة باستثمار مصادر القوّة
استمد حزب الله قوّته السياسيّة من وجوده في الميدان الذي توسّعت حدوده بمقتضى ضرورات تدحرج الصراع، وأصبح فاعلًا مؤثّرا على الصعيد الإقليميّ (في لبنان ومنطقة الشرق الأوسط)، واكتسب قيمة أخلاقية وسلطة معنويّة إضافيّة، بعد إفشال الحرب على سوريا ودرء التكفيريين عن لبنان عام 2017.
أنجزت المقاومة في لبنان تراجعات العدو وحالت دون الاستسلام وحقّقت انتصاراتها المتعاقبة (الانسحاب الأول 1985، التحرير 2000، تحرير الجرود 2017، صيانة السيادة والثروة البحرية 2022)، ونجحت بدرجة ما في تحطيم ثنائيّة "المحتل وعملائه" و"الخاضع للإحتلال وعملائه". وبالتالي أثبتت جدوائيّتها بوصفها عمليّة ممكنة وأقل كلفة من الاستسلام ومن تكبّد الأضرار الجسيمة في المصالح الوطنيّة. وأدّت إلى إحياء الأمل في الأنفس وبثّه عند الآخرين، وتعزيز الإرادات وإيجاد يقظة واثقة لمكوّنات أساسيّة من الشعب اللبنانيّ بتنبّهه للأخطار وتنمية الهويّة المستقلّة عن العدو والثقة بزواله، وصولًا إلى التماس معطيات مستقبليّة كبرى، هدفها الوصول إلى مرحلة الردع في المجالات كافّة، واكتساب القدرة الشاملة، والتي من شأنها إبعاد ظلال الحرب أو الانتصار فيها.
وقد ساهم كل ذلك إلى ما حصدته الانتصارات والتضحيات في نمو وتطوّر البعد السياسيّ الاستراتيجيّ للبنان المقاوم. ما بين استراتيجيّتيّ "الحماية من الاختراق" و"الاستفادة من الانفتاح"، أصبحت عمليّة تحصين الوحدة والمحافظة على الاستقرار داخل الاجتماع السياسيّ اللبنانيّ، كمرتكز قوّة يستند إلى تكوين لحمة اجتماعيّة أوسع في (الوطن والأمة الإسلاميّة والعربيّة) على أرضيّة تجعل الصراع حصرًا بوجه العدو، بخلاف ما لو كان الضعف والتناحر يتآكل الوطن فيسلب القدرة على مواجهة الفتن والمؤامرات والحروب بأنواعها ومستوياتها المختلفة، في ظل ضعف الدولة واختراقاتها. إنّ مشاريع الهيمنة والاحتلال تعتمد دائمًا على سياسة "فرّق تسد" ونشر الاضطراب والفوضى والتنازع والفتن عندما يحول دون أطماعها جماعة ما؛ في المقابل تعمل المقاومة على إفشال تلك الأهداف؛ وإرساء أسس تمكنها من مواجهة الهيمنة والاحتلال، من هنا تلتزم مبدأ الوحدة والهدوء وإشاعة الاستقرار بدوائرها التضمنيّة (بنيتها التنظيميّة، الطائفة، الوطن، الأمّة الإسلاميّة والعربيّة)، جاعلةً من المقاومة أو العداء لإسرائيل مظلّة تلك الوحدة، وهي إذ تتعامل بواقعيّة وعقلانيّة وإنسانيّة وعملانيّة عالية فإنّها تعترف بالأحجام السياسيّة الموجودة، ولا تغفل عن التمايزات والتباينات من حولها، إنّما تمنحها ما يلائمها وما يحقّق المقاصد العليا. لذلك، جُعِلت مسألة "حفظ المقاومة" الأولويّة في سياسة وإدارة حزب الله، ودارت مسألة إدارة شؤون مجتمع المقاومة والانخراط في إدارة شؤون الدولة مدار "حفظ المقاومة".
وهي استراتيجيّة تكامليّة تبتني على استثمار دقيق لكافة مصادر القوّة في عقل تناغميّ واقعيّ يوفّق بين مفهوم الدولة وضرورات الأنظمة وخيارات الشعوب؛ وليست استراتيجيّة تقهقريّة تنزلق تحت مواطن الضعف والتناقضات وهشاشة النسق في الدولة والنظام والاجتماع والخضوع التام لإرادة المُهيمِن؛ وليست استراتيجيّة مضطربة تقوم على الغلبة والإقصاء والإلغاء والشعبويّة والانفعال دون إمساك بخيوط المسؤوليّة والتوافق والتماسك والتقدّم.
هكذا أدارت المقاومة الإسلاميّة صلاتها بذاتها وشعبها والجيش الوطني وبالتالي بفهمها للدولة وتعزيزها بالمنطق المقاوم، بينما خاضت سائر معتركاتها كجزء من نسيج مقاوم يتوسّع بتوسّع العدوان على قاعدة حاسمة "سنكون حيث يجب أن نكون"، في مواجهة عدوّ مُهيمِن ومحتلّ عدوانيّ وتوسّعيّ يتّخذ من مشاريع الحصار والتهجير والنهب والحرب والتطبيع والإدماج أدواتًا لاستباب الاستحواذ والسيطرة؛ مما يفرض على المقاومة اجتراح "مفهوم النصر" من واقع التحدّيات (بعقلانيّة وواقعيّة ومعنويّة وإنسانيّة) ليُثمر النصر ولو بعد حينٍ، وعلى المدى المتوسّط أو البعيد، عبر تحقيق الأهداف البعيدة أو المعنويّة، مع مراكمة الانتصارات الصغيرة في حقول المواجهة وميادينها المتشعّبة والمتزامنة عند جبهات الداخل وعلى الحدود وما بعد الحدود وما بعد بعد.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024