آراء وتحليلات
خطاب الإمام الخامنئي إلى طلاب الجامعات الأميركية: فرصة تحدي هيمنة الرواية الصهيونية
خاطبَ آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي الشباب في الغرب بصورة مباشرة ثلاث مرات خلال السنوات العشر الماضية:
في المرة الأولى، توجه سماحته برسالة الى الشباب في أوروبا وأمريكا الشمالية في 21 كانون الثاني 2015، بعد هجومَين مسلحَين في باريس على مجلة "شارلي إبدو" الساخرة ومتجر يهودي، واستدعى ذلك تحشيدًا لزعماء دول غربية وغيرها في العاصمة الفرنسية ضد ما أسمي "الإرهاب الإسلامي". وقد لفت سماحته انتباه الشباب في الغرب بمناسبة هذه الأحداث الى أن "الاحتقار وإيجاد الكراهية والرهاب والخوف الوهمي من الآخر كل ذلك قد شكّل أرضية مشتركة لكل حالات الاستغلال الظالمة"، داعيًا الى قراءة الإسلام من منابعه الأصيلة وليس من وسائل الإعلام، وقال: "اليوم، ونحن نرى أن وسائل التواصل اخترقت الحدود الجغرافية، لا تسمحوا لهم بأن يحاصروكم في الحدود الذهنية المصطنعة". وأضاف: إنني أخاطبكم أيها الشباب "لأنني أرى مستقبل شعبكم وبلادكم بأيديكم، كذلك أرى بأنَّ رغبة البحث عن الحقيقة في قلوبكم أكثر حيوية واتقاداً"، بخلاف السياسيين والمسؤولين الغربيين الذين "فصَلوا درب السياسة عن مسار الصدق والحقيقة".
وفي 29 تشرين الثاني من العام نفسه، وجّه الإمام الخامنئي رسالة أخرى لشباب الغرب بعد الهجمات الإرهابية في باريس (استهدفت مسرحًا ومطعمًا وملعبًا) والتي رُبطت بمسلمين، ما أثار عاصفة إعلامية أخرى ضد الإسلام. وقال يومها إنّ "الأحداث المريرة التي ارتكبها الإرهاب الأعمى في فرنسا تثير الحزن لبني البشر"، وينبغي أن "توفّر الأرضيّة للتفكير بالحلول". وذكّر بأن العالم الإسلامي كان "ضحية الإرهاب والعنف المدعوم على الدوام من بعض القوى الكبرى بأبعاد أوسع بكثير، وبحجم أضخم، ولفترة أطول بكثير" مما شهدته حديثاً دول غربية. وذكر بالخصوص ما يعانيه "الشعب الفلسطيني المظلوم منذ أكثر من ستين عاماً من أسوأ أنواع الإرهاب.. من دون أن يتعرض الكيان الصهيوني أبدًا لمؤاخذة جادّة مؤثّرة من قبل حلفائه المتنفذين"، كما رفض أن يمارس الغرب "ضغوطه مُصِرًّا على الاستنساخ الثقافي للعالم على شاكلته"، آخذًا عليه أنه أصبح مكوَّنًا من "عنصرين أصليين في ثقافته: العدوانیة والتحلّل الأخلاقي"، وأمل أن يغير الشباب في المستقبل "هذه العقلية الملوّثة بالتزييف والخداع".
وفي المرة الثالثة في 25 أيار 2024، وجّه الإمام الخامنئي رسالة خاصة إلى الطلاب في الجامعات الأميركية الذين انتفضوا ضد الإبادة الجارية ضد الشعب الفلسطيني وطالبوا حكوماتهم بإيقافها. وهو حراك امتد إلى الجامعات الأوروبية وترك أصداء واسعة جدًا عبر العالم.
في هذه الرسائل الثلاث، نتوقف عند النقاط الآتية:
1 - الجمهور المخاطَب: في هذه الرسائل مجتمعة، سعى الإمام الخامنئي لبناء جسر تواصل مع الجيل الشاب في دول الغرب الذي لم يتلوّث بعد بسياسات الطبقة المسيطرة التي رهنت هذه الدول لمصالح إمبريالية ومن ضمنها الشبكة الصهيونية العنكبوتية الممتدة عبر بقاع العالم. ويُعرف عن الشباب عامة أنهم أكثر استعدادًا لتقبّل الحقائق ممن هم أكثر تقدّمًا في السن، كما أنهم في الوقت نفسه أكثر استعدادًا للمخاطرة في سبيل الدفاع عن معتقدهم وقيمهم. وفي ضوء التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية المتسارعة، بدأ الشباب الأميركي والأوروبي تلمّس قضاياه واهتماماته بعيدًا عن الأجندة المسبقة التي رتّبتها الشبكات الإعلامية الملتصقة بصانعي القرار وحلفائهم من الشركات الرأسمالية الكبرى وجماعات الضغط الصهيونية. وسيكون من المفيد جدًا أن تمتد الأيدي من العالم الإسلامي الى الشباب الثائر في الغرب من أجل بناء قواسم مشتركة، وفي طليعتها قضية فلسطين التي تعدّ من أجلى القضايا المعاصرة وأكثرها نصاعة على الصعيد العالمي، بهدف توسيع نطاق التأثير في مجريات السياسة الدولية وفضح أهداف الصهيونية وممارساتها.
2 - في محتوى الرسالة، نشير إلى بعض المضامين الهامة:
أ- قدّم الإمام الخامنئي قضية فلسطين في بُعدها الحقوقيّ والإنسانيّ، مُبيّنًا الى أي حد تداخلت فيها السياسة الاستعمارية مع المشروع الصهيوني لتُنتج جريمة العصر في إقامة "دولة إسرائيل" على حساب شعب آمن في بلده: "لقد أدخَلَ رَأسماليّو الشبَكَةِ الصَهيونيّةِ بعدَ الحربِ العالميّةِ الأولى، وَبدعمٍ مِنَ الحكومةِ البريطانيّة، عِدَّةَ آلافٍ من الإرهابيّينَ إلى هذهِ الأرضِ على نحوٍ تدريجيٍ، وَهاجَموا مُدُنَها وقُراها، وقَتلوا عشراتِ الآلافِ أو هَجّروهم إلى دولِ الجوارِ، وسَلبوهُمُ البيوتَ والأسواقَ والمزارعَ، ثُمّ أسّسوا في أرضِ فلسطينَ المُغتصبةِ كيانًا يُدعى إسرائيل". ثم عرض لدور حكومات الولايات المتحدة المتعاقبة في تمكين هذا الكيان: "إنّ أكبَرَ داعمٍ لهذا الكيانِ الغاصبِ، بعد المساعداتِ البريطانيِّة الأولى، هو حكومةُ الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيّةِ التي ما زالَت تُقدّمُ مُختلفَ أنواعِ الدّعمِ السياسيِّ والاقتصاديِّ والتَسليحيِّ لذاكَ الكيانِ بنَحوٍ متواصلٍ، كما أنّها بِمُجازَفَتِها التي لا تُغتَفَر، أشرَعَتِ الطريقَ أمامَهُ لإنتاجِ السلاحِ النوويِّ وأعاَنتهُ في هذا المسار". ويُعدّ تسليط الضوء على دور أمريكا وحلفائها في تمكين الاحتلال وتغطية ممارساته الإجرامية تذكيراً للشباب الغربيين بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم للتحرك والضغط من أجل تغيير هذا الواقع الظالم في أعلى هرم السلطة في بلدانهم.
واستطرادًا، ابتعد الإمام الخامنئي عن عرض قضية فلسطين في بُعدها العقائدي الإسلامي، وهو بُعد صحيح وصائب في الأصل لأنها تتعلق بشعب ذي غالبية مسلمة وأرض تحتضن مقدسات إسلامية، لكن - في مخاطبة شعوب الغرب- ثمة حاجة لتقديم هذه القضية المحقّة ببُعدها الإنساني، ما يوفر لها مدى أرحب ينفذ إلى المجتمعات التي تتلقى ألواناً من الدعاية الصهيونية التي تشرَّبها الصغار والكبار في المدارس أو من وسائل الإعلام. وهنا تأتي أهمية أن يتسم مضمون الرسالة بعرض حقائق ومطالب يتقبلها الضمير الإنساني من دون عناء كبير. وعلينا أن نعترف أن المسلمين والعرب لم يبذلوا الجهد الكافي على مدى العقود الماضية من عمر الصراع مع العدو لمخاطبة شعوب الغرب بلغاتها وأساليب الإقناع التي تتقبلها بغية إيصال مظلومية الشعب الفلسطيني. لكن دماء أهل غزة الفوّارة بغزارة شقّت طريقها اليوم إلى أرجاء الأرض وأحدثت فرقًا كبيرًا تغلّب على الحواجز اللغوية والثقافية والقيود السياسية، ويبقى على المسلمين والعرب أن يغتنموا هذه الفرصة الفريدة من أجل متابعة التواصل مع هذه الشعوب وتكثيف الضغوط على الحكومات والطبقات المهيمنة بهدف تحقيق العدالة وتحرير فلسطين.
ب- يُكبِرُ سماحته تحرك الشباب في الجامعات الأميركية الذين يقفون الآنَ "في الجهةِ الصحيحةِ مِنَ التاريخِ"، ويرفع مرتبة هذا الموقف إلى حد اعتباره متكاملاً مع الجهد الذي تبذله قوى المقاومة بالدم والأرواح: "أنتُم تُشكّلونَ الآنَ جزءاً من جبهةِ المقاومةِ، وقد شَرَعتُم بِنضالٍ شريفٍ تَحتَ ضُغوطِ حكومتِكم القاسيةِ، التي تُجاهِرُ بِدفاعِها عن الكيانِ الصهيونيِ الغاصبِ وعديمِ الرَّحمةِ. إنَّ جبهةَ المقاومةِ العظيمةِ تُكافِحُ منذُ سنينَ، في نقطةٍ بَعيدةٍ [عنكُم]، بالإدراكِ نَفسِهِ وبالمشاعرِ ذاتِها التي تعيشونَها الآنَ. والهَدفُ من هذا الكفاحِ هوَ وَقفُ الظّلمِ الفاضِحِ الذي ألحَقَتهُ شبكةٌ إرهابيّةٌ عديمةُ الرّحمةِ تُدعى الصهيونية بالشّعبِ الفلسطينيِّ". وهذه النظرة الإيجابية في تقدير موقف طلاب الجامعات في الولايات المتحدة والغرب عموماً تؤكد الحاجة إلى البحث عن وسائل لتصعيد النضال والعمل من داخل المجتمعات الغربية وإشراك القوى الحية في هذا الجهد، ذلك أن الاقتصار على الدفاع العسكري في البلدان الإسلامية التي تتعرض للضغوط المختلفة يمنح أمريكا وحلفاءها ميزة التحكم بسردية الصراع نظرًا لاستحواذها على وسائل الإعلام الكبرى وربط عجلات الكثير من الدول بمصالحها الاقتصادية وقبضتها السياسية. وقد رأينا حجم الإرباك الذي أحدثه حراك الجامعات والشوارع الأميركية والأوروبية للحكومات المعنية في الغرب، ما أرغمها على مراجعة خطابها واتخاذ بعض الخطوات التجميلية لسياساتها، لكن التأثير البعيد المدى يستلزم مواصلة هذا الحراك بقوة.
ج- أيضًا، يعيد سماحته عرض الحل المقترح لقضية فلسطين من منطلق أنه يجمع أبناء الديانات السماوية الثلاث: "إنَّ فِلسطينَ أرضٌ مستقلّةٌ ذاتُ تاريخٍ عَريقٍ، وَشعبٍ يَجمَعُ المُسلمينَ والمسيحيّينَ واليهود". وهذا الطرح سبق أن قدمته الجمهورية الاسلامية الايرانية ليشمل السكان الأصليين لهذا البلد، بعيداً عن المهاجرين الصهاينة الذين يُؤتى بهم لكي يحلوا مكان الشعب الفلسطيني في أرضه. وهذا الحل يرمي لإعادة الحق الى نصابه ولا يهدف الى محو الشعب اليهودي أو رميه في البحر، كما تروّج الدعاية الصهيونية. فالغرض هو إحلال العدالة، لا القتل والإبادة.
د- يعيد الإمام الخامنئي تعريف مصطلحَيْ المقاومة والارهاب في سياقهما الطبيعي، لافتًا الشباب في الجامعات الأميركية الى التشويه المديد الذي طال سمعة المقاومة ضد الاحتلال: "إنَّ قادةَ الغطرسةِ العالميّة لا يَرحمونَ حتّى المفاهيمَ الإنسانيّةَ! إنّهُم يقدّمونَ الكيانَ الإسرائيليَّ الإرهابيَّ عَديمَ الرحمةِ مُدافعًا عن النّفسِ، ويَنعَتونَ مُقاومَةَ فِلسطينَ التي تُدافِعُ عَن حُريَّتِها وأمنِها وَحقِّها في تقريرِ مَصيرها، بالإرهاب". وهذا التشويه والقهر يلمسه الطلاب في الجامعات الاميركية أيضاً من "سُلوكِ الحكومةِ البوليسيِّ الفظّ، والضغوطِ التي تمارِسُها" بحقِّهم، ما يسهم في التقارب النضالي بين جهتين تقفان في قبالة الصهيونية والجهات الحليفة لها، كل من موقعه.
ه- يدعو سماحته الطلاب إلى التفاؤل بالمستقبل وعدم اليأس من تغيير الواقع الحالي: "أودُّ أن أُطَمئِنَكُم بأنَّ الأوضاعَ في طَورِ التغييرِ اليوم، وأنَّ أمامَ منطقةِ غَرب آسيا الحساسةِ مصيرٌ آخَر. لقد صَحَت ضَمائِرُ كَثيرةٌ على مُستَوى العالَم، فالحقيقةُ في طَورِ الظُّهور. كما أنَّ جبهَةَ المُقاومةِ باتَت قويّةً، وستَغدو أكثر قُوّةً...، وسوفَ تُحقّقُ النّصرَ بإذن الله". وهذا الأمل يصدر من قائد يدرك خفايا الصراع ويعرف ملامح التغيرات التي تطرأ تدريجياً على المشهد العالمي.
3- في الوسيلة، مرّر الامام الخامنئي في رسالته الأولى بداية عام 2015 ملاحظة هامة تتعلق بالقدرة على تحدي "الحدود الذهنية المصطنعة" التي تصنعها وسائل الإعلام وقادة الرأي في الغرب أمام الشباب وطلاب الحقيقة، وذلك عن طريق استخدام وسائل التواصل التي تخترق الحدود الجغرافية. وهذا ما رأينا أثره اليوم في الجامعات الأميركية، حيث كان لوسائل التواصل الاجتماعي دور بارز في نقل المظالم وعمليات الإبادة التي يرتكبها الصهاينة وأدّت الى هزّ مشاعر الطلاب وفئات اجتماعية أخرى نزلت إلى الشارع للاعتراض على دعم الكيان في مذبحة العصر. ويلقي ذلك على المسلمين والعرب من جهة أخرى مسؤولية في حسن الاستفادة من هذه الوسائل لتوصيل رسالتهم والتعريف بقضاياهم، في مواجهة الكليشيهات التقليدية التي يؤطّر بها الإعلام الغربي قضايا هذه المنطقة وصورة الإسلام والمسلمين والعرب.
ختاماً، يمثل نهوض الطلاب الاحتجاجي في الجامعات الاميركية والغربية فرصة مناسبة للنفاذ إلى عقول وقلوب الأميركيين الذين صنعت أجهزة الدعاية الغربية حاجزًا كثيفًا لمنع تفاعلهم مع القضايا المحقّة للعالم الثالث، ومنها قضية فلسطين. وقد التقط الإمام الخامنئي هذه الفرصة للتوجه إلى جمهور الشباب الغربي الذي يبدو اليوم أكثر استعدادًا للاضطلاع بدور في تحدي هيمنة الرواية الصهيونية، بعيدًا عن السياسات التقليدية للحكومات التي تقف إلى جانب الكيان الصهيوني وتمدّه بكل أسباب القوة على حساب شعاراتها الأساسية. وفي ذلك تأكيد على أن جبهة المقاومة تتّسع، وهذه المرة من داخل معاقل الغرب الأكاديمية والثقافية بالذات.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024