آراء وتحليلات
بعد الإخفاق العسكري.. أوروبا عاجزة أمام الأصول الروسية
لم تستطع أميركا وإلى جانبها الدول الأوروبية الحليفة، أن تحقق على مدار سنتين من القتال أي مكاسب حقيقية أو انتصار واقعي في الحرب الروسية - الأوكرانية التي تمثلهم أوكرانيا رسميًا فيها. وهذا الفشل الاستراتيجي الكبير رغم الدعم والتمويل العسكري الهائل لأوكرانيا، رافقه أيضًا عجز آخر تمثل بعدم جرأة الأميركيين والأوروبيين لغاية الآن على الاستيلاء على الأصول الروسية السيادية الموجودة لديهم، رغم العديد من المحاولات والخطط التي لا زالت لهذه اللحظة غير مجدية وغير مضمونة النتائج.
قبل الحديث عن نوايا وتحركات مجموعة الدول السبع الكبرى تجاه هذه الأصول الروسية التي تقدر بأكثر من 300 مليار دولار، لا بد من التفريق بين أمرين وهما تجميد الأصول والاستيلاء عليها. فبينما يُمنع المالك في الأولى من التصرف بالأصل وكذلك الأمر بالنسبة للجهة المصادرة له، يتم في الثانية نزع الملكية تمامًا من صاحب الأصل ونقلها للجهة التي استولت عليه حيث يصبح بإمكانها التصرف به.
وفي هذا الإطار، إن ما قامت به هذه الدول فعليًا على امتداد سنتين وتحديدًا منذ شباط/فبراير 2022 هو مصادرة الأصول الروسية، أما اليوم فإننا نشهد حملة كبيرة للاستيلاء عليها، وهذه الحملة تقود جهودها بالطبع الولايات المتحدة الأميركية عبر وزيرة خزانتها جانيت يلين التي بدأت مؤخرًا بإقناع الأوروبيين بالاستيلاء على هذه الأصول، لكن الموقف الأوروبي لا زال يعاني من تردّد وتضارب لما قد ينتج عنه من تداعيات ثقيلة لا تحمد عقباها.
من المعروف أن الولايات المتحدة الأميركية وحلفاءها لا زالوا يموّلون الحرب الأوكرانية من جيوب دافعي الضرائب لديهم، وقد وصلت قيمة الدعم المالي والعسكري المقدم من الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا إلى ما يقارب الـ 108 مليارات دولار، فضلًا عن 54 مليار دولار تم الإعلان عنها منذ أربعة أشهر تقريبًا. على الصعيد الأميركي، فقد وافق الكونغرس حتّى الآن على إرسال حزم مساعدات عسكرية لأوكرانيا وصلت قيمتها إلى 175 مليار دولار، وقد استغرقت الموافقة على الحزمة الأخيرة أشهرًا بسبب معارضة الجمهوريين لها.
مع مرور الوقت، بدأت حالة التململ تتسرب إلى الأوروبيين والأميركيين من الاستمرار في تمويل المساعدات العسكرية لأوكرانيا، خاصةً وأن نهاية الحرب لا تلوح في الأفق، ويضاف إلى ذلك أن رهان هذه الدول على انهيار الاقتصاد الروسي وتراجع قوة روسيا قد فشل في ظل إظهار روسيا قدرتها على مواصلة الحرب لسنوات عديدة قادمة، على عكس الدول الممولة لأوكرانيا والتي تعاني بمعظمها من العجز في ميزانياتها ومن التضخم، لذا؛ فإن استمرار التمويل العسكري لأوكرانيا مستقبلًا سيكون إما عبر الاستلاف أو رفع الضرائب، وهذا ما دفع أميركا إلى تحريض الأوروبيين للاستيلاء على الأصول الروسية واعتمادها كمصدر لتمويل أوكرانيا.
بالعودة إلى الموقف الأوروبي المتعثر بهذا الشأن، فإن عدم إقدامهم على هذه الخطوة مرتبط بأسباب عديدة، منها الخوف من التداعيات السلبية الخطرة على مكانة اليورو كعملة احتياطية عالمية، لأن دول العالم في هذه الحالة ستتخوّف من وضع أموالها في أوروبا، ما يعني التأثير سلبًا على مكانة اليورو، مع العلم أن وزيرة الخزانة الأميركية حاولت طمأنة الأوروبيين من هذه الناحية باعتبار أنه لا يوجد عملات احتياطية بديلة في العالم عن الدولار واليورو والين الياباني.
هذا السبب يضاف له سبب قانوني آخر، فألمانيا مثلًا بصفتها الدولة الأقوى اقتصاديًا في أوروبا، لا زالت تتهرب لغاية الآن من دفع تعويضات مالية لـبولندا، بدلًا عن الأضرار التي ألحقتها بها في الحرب العالمية الثانية والتي تقدر بـ 1.3 تريليون يورو، ومشاركة ألمانيا بالاستيلاء على الأصول الروسية قد يشكّل حجة قانونية لبولندا للمطالبة مجددًا بدفع التعويضات.
تقدر قيمة الأصول الروسية السيادية المجمدة في أوروبا بما يقارب الـ 210 مليارات يورو، معظمها موجود في بلجيكا لدى شركة Euro clear التي تضع يدها على 191 مليار يورو منها، وفي هذا السياق هدّدت روسيا في حال الاستيلاء عليها، بالقيام بخطوة مماثلة تجاه الأصول الغربية لديها والمقدرة بـ 288 مليار دولار، كما أنها من الممكن أن تضع الشركة البلجيكية أمام دعوى قضائية في حال تصرفت هذه الأخيرة بالأصول الروسية لديها.
أمام هذا الواقع، عمدت مجموعة الدول السبع للبحث عن حلول أقل خطورة، حيث وقّعت هذه الدول في أيار/مايو 2024 على خطة لاستخدام أرباح الأصول الروسية المجمدة لديها لدعم أوكرانيا على أن يتم تحويلها لها مرّتين في السنة، وبذلك ستكسب أوكرانيا دعمًا سنويًا يقدر بـ 3.3 مليار دولار، لكنّه يبقى غير كاف أبدًا.
فكرة أخرى طرحتها بلجيكا، وهي تقضي بأن تعطي الدول الغربية قروضًا لأوكرانيا بضمانة الأصول المجمدة، لكن في ذلك إشكالية قانونية واضحة، إذ إن معاملة الأصول الروسية كضمانة للقروض التي ستمنح لأوكرانيا تعنى الاستيلاء عليها فعليًا مما يعيدنا للنقطة الجوهرية التي يحاول الأوروبيون تجنبها.
مجموعة الدول السبع عادت لمناقشة مسار آخر في هذه القضية، وهو ينص على منح قروض بقيمة 50 مليار دولار لأوكرانيا بضمانة أرباح الأصول المجمدة، إلا أنها لم تحسم قرارها بهذا الشأن لأن استخدام أرباح الأصول المجمدة كضمانة، يعني أن تبقى الأصول الروسية مجمّدة طيلة مدّة استحقاق القروض، وهي بالطبع مدّة زمنية طويلة، وهنا يطرح السؤال حول قدرة الأوروبيين على تجميد الأصول الروسية لهكذا مدّة زمنية.
المقترح الأخير الذي كان في حوزة مجموعة الدول السبع، هو رهان الأوروبيين على أن روسيا ستدفع بعد انتهاء الحرب تعويضات لأوكرانيا عن الخسائر التي ألحقتها بها، والتي تقدر تقريبًا بما يفوق الـ 486 مليار دولار بحكم أنها هي من بادرت بشن الحرب أولًا، مما يتيح إمكانية منح أوكرانيا حاليًّا قروضًا ميسرة يتم سدادها لاحقًا من التعويضات الروسية، لكن بالمقابل لا شيء يؤكد للأوروبيين أن روسيا ستدفع فعلًا هذه التعويضات، عندها ستعود الكرة مجددًا إلى دائرة الأصول الروسية المجمدة.
تكشف محاولات ومخطّطات أميركا ومعها دول القارة العجوز عن المأزق الحقيقي الذي تعيشه هذه القوى في التعامل مع الأصول الروسية السيادية، ومن جهة أخرى فهي تبيّن قوة روسيا وقدرتها على التصرّف بالمثل ومواجهة العقوبات المفروضة عليها دون أي ردع، وهذا ما يدفعنا للتساؤل عن إمكانية تبدّل مواقف هذه الدول مستقبلًا لا سيما وأن أوكرانيا لا زالت عاجزة حتّى الآن عن رسم أي معالمٍ لصورة النصر.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024