معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

ما وراء قصّة "ذا تلغراف": تحويل الانتباه عن هزيمة العدوّ وتفريخ مطارات مناطقية
26/06/2024

ما وراء قصّة "ذا تلغراف": تحويل الانتباه عن هزيمة العدوّ وتفريخ مطارات مناطقية

بين وقت وآخر، يعيد العدوّ بوسائل مباشرة أو غير مباشرة التصويب على مطار بيروت الدولي، ربما باعتباره المرفق السيادي الأهم في الدولة اللبنانية، لا سيما بعد التفجير الذي حصل في ميناء بيروت عام 2020. وعندما يصاب العدوّ بالإعياء من حِيله التقليدية في التهديد والوعيد، يسرّب قصّة عن تخزين أسلحة في مطار بيروت أو جواره. 

نستعيد محطات عدة في هذا المجال خلال السنوات الست الأخيرة: 

في مطلع تشرين الأول/أكتوبر 2018، ادّعى رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو أن حزب الله لديه مصانع ومخازن للصواريخ عالية الدقة يقع أحدها أسفل ملعب نادي العهد لكرة القدم القريب من مطار بيروت! وقد نظّمت الحكومة اللبنانية يومها جولة للسفراء العرب والأجانب قادها وزير الخارجية آنذاك جبران باسيل شملت المناطق المشار إليها، للرد على المزاعم "الإسرائيلية".

في نهاية أيلول/سبتمبر 2020، عاود نتنياهو الادّعاء أن حزب الله يمتلك مصانع أسلحة في نطاق بيروت وضواحيها يقع أحدها بالقرب من مطار بيروت، وكان ذلك بعد شهر واحد من انفجار مرفأ بيروت. واستغل نتنياهو المناسبة للتحذير مما أسماها "مأساة جديدة" إذا "انفجر" المصنع المزعوم.

في 23 حزيران/يونيو 2024، نشرت صحيفة "ذا تلغراف" البريطانية قصّة أسندتها إلى "عاملين" في المطار و"مصادر استخبارية" تزعم تخزين صواريخ ثقيلة مختلفة الأنواع في مستودعات أسفل مطار بيروت. وكانت تلك أكثر المزاعم ارتباطًا بالمطار مباشرة، وليس بمناطق قريبة منه. ولم ترفق الصحيفة هذه المزاعم بأية صور أو خرائط، خاصة مع انتشار الكاميرات بين أيدي الجميع في عصر التكنولوجيا الرقمية. لكن الصحيفة وقعت في مطبّ خطير كشفت فيه عن ضعف مصداقيتها، إذ نقلت تأييدًا لهذه المزاعم من الاتحاد الدولي للنقل الجوي IATA الذي سارع إلى نفي ما ذكرته الصحيفة نقلًا عنه. وبقي "العمال" مجهولو الهوية والمصداقية محل ارتياب، وكذلك هوية "مصادر الاستخبارات" المشار إليها. ونظمت وزارة النقل والأشغال العامة جولة للدبلوماسيين والإعلاميين على مستودعات المطار لرؤية الأمور عن قرب. 

يشير التصويب المتكرّر على مطار بيروت تارة من العدوّ الصهيوني، وتارة أخرى من وسائل إعلام عربية ولبنانية محسوبة على محور التطبيع مع العدو، وطورًا ثالثًا بالتكافل والتضامن من الجانبين معًا، إلى حملة متواصلة لهزّ الثقة بلبنان عامة في إطار الضغط على المقاومة التي تضطلع بدور طليعي في هذه المرحلة الحساسة من الصراع، ولضرب الثقة أيضًا بالمطار على طريق فتح مشاريع مطارات مناطقية تخدم طروحات التجزئة والفدرلة التي تنمو كالفُطر في بلدان مثل سورية والعراق واليمن والسودان وليبيا، وبعض هذه المشاريع تغذيها وتقودها دول مطبّعة مع العدوّ من أجل السيطرة على مواقع استراتيجية وإدارة ثروات طبيعية ضخمة. وجاء تقرير "ذا تلغراف" مثل "شحمة على فطيرة" لوسائل إعلام تدور في فلك هذه الدول والجهات السياسية التابعة لها في لبنان من أجل ضرب مكانة مطار بيروت وتجديد الحملة على المقاومة في لبنان. 
ويأمل أصحاب هذا السلوك الإعلامي الدعائي ترسيخ فكرة سيئة في الأذهان حول واقع المطار، تمهيدًا لإحداث التغيير الذي يرتقبونه في أي فرصة سانحة، ويعتمدون على وجود انقسام سياسي في لبنان واستعداد شرائح لبنانية لتقبّل هذه المزاعم، إلى درجة أن بعضهم بات يصدّق ما تقوله وسائل الإعلام حتّى لو أظهرت جولات تحقُّق ميدانية لهيئات دولية مهتمة بسلامة المطارات عكس ذلك. وتتم إدارة الحملة بآليات دعائية معروفة: 

- إثارة مخاوف بشأن وجود أخطار أمنية في مطار بيروت وحوله.

- تكرار هذه المزاعم.

- التشكيك بسلامة الإجراءات التي تتخذها السلطات في المطار.

- تضخيم بعض حوادث تهريب المخدرات، بالرغم من تعاون لبنان مع الدول والهيئات الدولية المعنية.

- التصويب على المقاومة والبيئة الحاضنة لها في كل ما يتصل بإدارة المطار وسلامته وأمنه. 

وتهدف هذه الحملة في الوقت الحالي لتحويل الانتباه عما تحققه المقاومة من نجاحات في مواجهة العدو سواء على جبهة شمالي فلسطين أو في جبهة غزة. 


 
التوقيت

تأتي قصّة "ذا تلغراف" بعد أيام قليلة على فيديو "الهدهد" الذي بثته المقاومة الإسلامية وتضمَّن كشفًا جويًا تفصيليًا بمواقع عسكرية وصناعية أساسية في حيفا ومناطق أخرى شماليّ فلسطين المحتلة، أتبعتها بعد أيام بفيديو تضمّن إحداثيات بمواقع حيوية في مختلف أرجاء كيان العدو. وأحدث الفيديو الأول بشكل خاص ضجة كبيرة في أوساط الكيان قيادة ووسائل إعلام ومستوطنين حول قدرة وسائط الاستطلاع الجوي لدى حزب الله على التجوال بحرية في حيفا لفترة غير قصيرة والتقاطها صورًا ذات جودة عالية لمنشآت نفطية وبتروكيماوية ومصانع عسكرية وتفاصيل ميناء حيفا وأماكن تمركز بوارج حربية و"القبة الحديدية" و"مقلاع داود". وتكوَّن انطباع لدى المهتمّين بأن كشف هذه المعطيات يهدف إلى ردع العدوّ عن شن عدوان كبير على لبنان يجري الحديث عنه إعلاميًا وسياسيًا، وذلك عبر إظهار جانب من إمكانات المقاومة التي لا تزال تقوم بجمع المعلومات عن أهداف في عمق كيان العدوّ بالرغم من كلّ الوسائل والطائرات الاعتراضية التي يمتلكها. 

جاء دور تقرير "ذا تلغراف" ليحوّل الانتباه عن مفعول الكشف الاستخباري الذي أظهرته المقاومة بشأن الأهداف المتوفرة لديها في مرمى العدو، إلى أهداف مشكوك فيها داخل لبنان. واللافت أن العدوّ الذي أفصح في السنوات الماضية عن نوايا حيال مطار بيروت ومحيطه، تحاشى اليوم تناول هذا الموضوع بنفسه وآثر ترك هذا الدور لصحيفة بريطانية. 

كما تأتي قصّة الصحيفة في ذروة اضطراب صهيوني داخلي يتعلق بكيفية إدارة الحرب على الجبهة الشمالية مع لبنان، بين قائل بوجوب التحرك وشن حرب واسعة، وبين داعٍ إلى وجوب السعي لحلٍ سياسي لأن نافذة الحرب إذا فُتحت ستجرّ أضرارًا كبيرة على الكيان، وقد تؤدي إلى انهيار الجيش الذي يعاني من أزمة تجنيد ومن إنهاك بعد نحو تسعة أشهر من الحرب. 

الخلفية

تواجه مصداقية "ذا تلغراف" مشكلة مزدوجة: 

الأولى، أنها منذ عام 2010 بدأت تتّجه ناحية اليمين المتشدد في بريطانيا وتنتهج خطًا أقرب إلى المحافظين الأكثر مناهضة للهجرة والأكثر تأييدًا لـ"إسرائيل". 

الثانية، أن المجموعة الإعلامية "تلغراف" التي تدير الصحيفة اليومية "ذا تلغراف" والأسبوعية "صنداي تلغراف" ومجلة "ذي سبيكتايتور" تقع تحت وطأة ديون ضخمة تبلغ 1.22 مليار دولار، ما دفع إدارة المجموعة إلى البحث عن سبل لسداد الديون أو بيعها. ويبدو أن الخيار استقرّ أخيرًا على البيع. وفي كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي، توصل صندوق مدعوم من دولة الإمارات، وتحديدًا من نائب رئيس الوزراء الإماراتي ومالك نادي "مانشستر سيتي" لكرة القدم، منصور بن زايد آل نهيان، إلى اتفاق مع عائلة "باركلي" المالكة السابقة لصحيفة "تلغراف" بهدف السيطرة على المجموعة الإعلامية، وقد تم ذلك من خلال سداد الديون المستحقة، لكن الجهات الحكومية البريطانية اعترضت لاحقًا على تملّكها من جهاز أجنبي، فتقرر عرض "ذا تلغراف" للبيع.

أيًّا يكن، فإن وسائل الإعلام التي تتعرض لأزمات مالية وتتلقى تمويلًا من جهات حكومية أو خاصة تصبح أكثر انقيادًا للتأثير السياسي من الجهات المموِّلة. وهنا يُطرح سؤال عما إذا كان ارتباط الصحيفة باتّجاه المحافظين البريطانيين الأكثر تصهينًا أو بالتمويل الإماراتي أسهم في تبني وإطلاق الرواية المتعلّقة بمطار بيروت والتي لا يوجد سند مادي لها. ولوحظ أن وسائل الإعلام المتلفزة المرتبطة بدول التطبيع الخليجية سارعت إلى تبني هذه الرواية ببثّ الأخبار العاجلة لساعات طويلة وفتح شاشاتها لتناول الموضوع مع "محللين" باعتباره حقيقة لا جدال فيها، بل وناقشت الموضوع من زاوية تأثيراته الأمنية على حركة السفر إلى لبنان وإشاعة أجواء تخويف من السفر عبر مطار بيروت، حيث روّجت توقّعات بحصول ضربة "إسرائيلية" لمطار بيروت ولبنان عامة. وبدا كأنها تستعجل الحرب على لبنان أكثر من استعجال "الإسرائيلي" نفسه! وترافق ذلك مع استعادة تحذيراتٍ وجّهتها دول عدة في ما مضى إلى رعاياها لتجنب السفر إلى لبنان، أو للخروج منه في أقرب وقت في حال وجودهم في البلد. وشاركت وسائل إعلام لبنانية تتغذى من دول التطبيع في حفلة التهويل، من دون أخذ مسافة من هذه المزاعم، وفق ما تقتضيه المعايير المهنية وكذلك الوطنية. 

من دون شك، فإن هذا التعريض بسمعة مطار بيروت ووضعه الأمني يندرج ضمن مسار تساوقٍ بين الإعلام "الإسرائيلي" وإعلام دول التطبيع العربي والإعلام الملتحق به في لبنان، وقد اصطفّ الإعلام المطبّع في طليعة هذا الاشتباك وبدا أشدّ شراسة ضدّ أمن لبنان وأكثر بعدًا عن المعايير المهنية، فضلًا عن مراعاة العلاقات الأخوية المفترضة مع لبنان.  

وهناك نقطة تلفت الانتباه في تقرير الصحيفة البريطانية، وتتمثل في دعم روايتها بمقابلة مع الوزير السابق عن "القوات اللبنانية" غسان حاصباني الذي دعا إلى وضع مطار بيروت تحت إشراف دولي، ما يكشف ربما عن بعض أهداف هذه الحملة التي تتردّد بين وقت وآخر لغاية فرض سلطة استخبارية دولية على هذا المرفق السيادي. 

"شوشرة"

لا حاجة للتأكيد أن "إسرائيل" لا تحتاج إلى ذريعة لاستهداف أي مكان، فيمكن اصطناع أي ذريعة بعد ارتكاب الجريمة، كما فعلت وتفعل في قصف مطارات سورية أو في ضرب مناطق لبنانية عدة حاليًا، أو كما تفعل في فلسطين من مذابح ومجازر في رفح وفي وسط قطاع غزّة وشماله. 

ولو عدنا إلى الوراء، لاكتشفنا أن مطار بيروت كان على الدوام هدفًا إسرائيليًا قبل وجود حزب الله وبعده: 

في عام 1968، قامت قوة كوماندوس صهيونية بنسف 13 طائرة ركاب وشحن لبنانية كانت جاثمة على أرض المطار، ولم تكن هناك أسلحة في المطار ولا تحته ولا بجانبه. 

 في العام 1976، تعرض مطار بيروت لعدوان "إسرائيلي" وعطّل حركة الملاحة فيه. تكرّر ذلك خلال الاجتياح الكبير عام 1982. 

في حرب تموز 2006، قصف العدوّ مدرّجات المطار، دون وجود أسلحة فوق أرضه وتحتها.

كذلك اعتدنا في السنوات الماضية على سماع نغمة التهديد بضرب البنى التحتية في لبنان من مطار وكهرباء وجسور وطرقات بذريعة وجود الصواريخ الدقيقة لدى المقاومة، لأنهم يريدون لبنان مجرَّدًا من عناصر القوّة.

لهذا، لم تعد الذريعة مهمة؛ الإثارة الإعلامية هي فقط لغاية "الشوشرة" وتحويل الانتباه عن نكسات العدوّ وعجزه عن إحداث تغيير في المعادلة الصعبة "غزّة – لبنان"، حيث يجد قادة الاحتلال أن إنهاء الحرب على غزّة من دون تحقيق الأهداف المعلنة هزيمة، وأن بدء حرب واسعة على لبنان بداية هزيمة أخرى.

مطار بيروت

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات