آراء وتحليلات
جبهة الشمال تستهدف جذور الاستيطان التاريخي في فلسطين
لطالما راودت الكثيرين منا أفكار وتساؤلات حول بدايات الاستيطان الصهيوني في فلسطين، ومتى كانت أولى المستوطنات التي أنشأت وشكَّلت قدوم طلائع مجاميع الصهاينة من أقطار العالم إلى "أرض الميعاد"، كما يدّعون في سرديتهم الكاذبة والواردة في تلمودهم المزيّف، والتي عملت عليها الحركة الصهيونية منذ تاريخ نشوئها في العام 1897 وفقًا لتطلعات مؤسسها الأول تيودور هرتزل، والتي أخذت على عاتقها إنشاء المستوطنات الصهيونية فوق أرض فلسطين.
هذه الفكرة بدأت تباشيرها في أوروبا، في العام 1695م، على خلفية أن اليهود هم دخلاء على النسيج الأوروبي ويجب نقلهم خارجها، فكانت دائمًا فلسطين وطنهم المقدّس هي الوجهة والهدف؛ فالتقت رغبات المملكة البريطانية وتواطؤ البعض في السلطنة العثمانية في هذا المجال. وكانت محاولات عديدة لاستئجار قرى وبلدات فلسطينية لاستقدام اليهود للإقامة فيها لم يُكتب لها النجاح. وشهد العالم أولى المستوطنات، في العام 1870م، وأسميت "مكفا إسرائيل" أي "أمل إسرائيل"، في ضواحي مدينة القدس، ويعدّها المؤرخون اليهود أول مستوطنة زراعية يهودية أنشئت في فلسطين.
توالت عمليات الاستيطان والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، تارة بالشراء وبالإيجار طورًا آخر، بدعم من المؤسسات اليهودية الناشئة في ذلك التاريخ، وبدعم من الوكالة اليهودية المنبثقة عن المؤتمر الصهيوني التأسيسي الأول في العام 1897م. وكان الظهور الأول المنتظم للمستوطنات، في العام 1878م، بداية مع مستوطنة ""بتاح تكفا"" أي "مفتاح الأمل" وللإسم دلالاته، وقد أنشئت قبل 146 عامًا فوق أراضي بلدة "ملبس" من ضواحي مدينة يافا المحتلة، والقريبة من نهر "العوجا" ذي المياه العذبة، وهو ثاني أكبر أنهار فلسطين بعد نهر الأردن.
هذه القرية خصبة زراعيًا وذات موقع استراتيجي قريب من الساحل الفلسطيني، هُجّر أهلها في بدايات الاحتلال البريطاني لفلسطين وقبل نشوء الكيان الغاصب بمدة طويلة، حيث شكّلت المستوطنة المذكورة مقرًا للعصابات الصهيونية بحماية من البريطانيين أنفسهم وتسليحهم ومارست تلك العصابات الاعتداء والإجرام بحق أهل القرى الفلسطينية المجاورة، ثمّ تتالى نشوء المستوطنات: "روش بينا ريشون ليتسيون وزخرون يعقوب" في العام 1882م، تبعها في العام 1883م "مستوطنتا عفرون ويسود همعليه" ولحقتهم مستوطنة "جديرا" في العام 1884م. وفي العام 1890م أنشئت مستوطنتا "رحوبوت ومشمار هيارون". وبعد انعقاد المؤتمر الصهيوني الثاني كان قد بلغ عدد المستوطنات التي أقيمت فوق أرض فلسطين 22 مستوطنة امتدت على مساحة لا تقل عن 418 ألف دونم من الأراضي الزراعية الخصبة.
الحركة الصهيونية العالمية، ومنذ انطلاقتها في أواخر القرن التاسع عشر وفي أساس تركيبتها الإيديولوجية، رفعت شعار المشروع الصهيوني الواضح والصريح آنذاك وهو" عودة شعب بلا أرض إلى أرضٍ بلا شعب". من هنا؛ عملت على تعزيز الشعور القومي عند يهود العالم ومحاولة تجذير ارتباطهم بأرض فلسطين وطنًا قوميًا يهوديًا عبر إنشاء المستوطنات ذات الطابع الزراعي والصناعي واستقدام المستوطنين إليها. ونرى معظم قيادات الكيان قد قاموا بتغيير أسمائهم وكنيتهم إلى أسماء توحي بأنهم شرق أوسطيين، مع أنهم قادمون من شرق أوروبا.. وسيثير فيك العجب معرفة أسمائهم الحقيقية، وكلّ ذلك في محاولة لإنشاء علاقة وارتباط كاذبين بالمكان، بين ذاك اليهودي القادم من خلف البحار وتلك الأرض التي اغتصبت وسيُطر عليها تمهيدًا لتهويدها لاحقًا.
في قراءة بسيطة لطبيعة الاستيطان في فلسطين، نجد أن معظم هذا الاستيطان قائم في شمال فلسطين ووسطها، حيث الطبيعة الجغرافية فيها تتكوّن من الجبال والسهول والحقول الزراعية والأراضي الخصبة الملائمة للإنتاج الزراعي، والتي تشكّل واقعًا معيشيًا ملائمًا للاستيطان وقيام التجمعات السكانية ولاحقًا في الجنوب.
كما وشكّلت الخاصرة الرخوة والقلق الأساسي لوجودية الكيان "الإسرائيلي" واستمراره لما تحتويه هذه المساحة الجغرافية معظم مكوّنات هذا الكيان السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والتجمعات البشرية الاستيطانية. ولطالما شكّل الشمال الفلسطيني ركيزة هذا الاستيطان ودوره الاستراتيجي في رفد الكيان بالعنصر البشري العامل والمنتج وبالعديد والجنود، وفيه نشأت العصابات الصهيونية الإجرامية وعتاة المجرمين الصهاينة، ومنهم مثالًا "موشيه دايان" السيّء الذِكر الذي كان أول مولود في إحدى كيبوتسات الشمال وتسمّى "دغانيا" بالقرب من بحيرة طبريا.. وأيضًا عملت هذه المستوطنات بمدّ الكيان بأكثر حاجاته الغذائية والصناعية. كما وشكّلت تلك التجمعات الاستيطانية حزامًا أمنيًّا لحماية الكيان من الأخطار الوجودية القادمة من الشمال، والتي تجسِّدُها في يومنا الحاضر المقاومة الإسلامية في لبنان أولى وأكبر وأعظم تلك التهديدات والأخطار الاستراتيجية التي يحسب لها العدوّ "الإسرائيلي" ألف حساب.
إزاء هذا الواقع؛ برزت أهمية الاستيلاء على جبل الشيخ ومرتفعات الجولان السوري الاستراتيجية لما تختزنه من مياه جوفية بحجم استراتيجي يحتاجها شمال الكيان الكيان ووسطه في حياة المستوطنين اليومية وفقًا لرؤية "بن غوريون"، والذي كان أول من أعلن قيام الكيان (دولة إسرائيل) في العام 1948م. هذه الرؤية أخذها بالحسبان المشروع الصهيوني الاستيطاني، منذ بداية القرن الماضي، في إطار إدراك الحاجات المائية للكيان المنشود. فقد عملت الحركة الصهيونية حثيثًا في دوائر القرار الدولي ودول الانتداب على أساس أن جبل الشيخ (حرمون) هو الخزان الأساسي والرئيسي لمياه "الدولة" من دون إغفال الأطماع في مياه الليطاني وروافد الحاصباني لأهميتها في التنمية وفي ترسيخ وتجذير وتثبيت الاستيطان في الكيان الغاصب. ولأجل ذلك كانت المياه واحدة من أهداف الاجتياحات "الإسرائيلية" المتكرّرة للبنان، في عامي 1978 و1982م، والدفع نحو توقيع اتفاقية إذعان للبنان المعروفة باتفاقية السابع عشر من آيار في العام 1983م، والتي أسقطتها سواعد المقاومين ودماء الشهداء.
منذ تسعة أشهر، وهذا الشمال من الساحل الفلسطيني وحتّى مرتفعات الجولان السوري المحتل يتعرض يوميًا للاستهداف من المقاومة الإسلامية اللبنانية في ردها للعدوان "الإسرائيلي" على جنوب لبنان، وفي إطار مساندة الشعب الفلسطيني في مقاومته للعدوان على قطاع غزّة. فقد خلت المستوطنات من مستوطنيها، وأضحت القرى أشباحًا وشبه مدمرة تعصف وتولول فيها الرياح، وأدّت إلى نزوح ما لا يقل عن 230 ألف مستوطن من تلك المنطقة، وفقًا لتقديرات الصحافة "الإسرائيلية" والغربية. كما وضربت كلّ روابط الثقة والعلاقة بين المستوطن "ودولته"، والذي يعدّ أنها تخلّت عنه وتركته للأقدار وللمصير المؤلم الذي تتسببه صواريخ المقاومة، فضلًا عن الشعور الدائم بالخوف من قيام المقاومة باجتياح الجليل والسيطرة عليه.
وعلت الأصوات المنادية بالانفصال عن "الدولة" والتمرّد ورفض وجود الجنود "الإسرائيليين"، في شوارع المستوطنات وفي داخل بيوتها، والتي أصبحت عرضة للاستهداف من المقاومة، ما ضاعف التدمير والتخريب في بيوت المستوطنين ومزارعهم ومصانعهم. والأهم من كلّ ذلك؛ أن المقاومة الإسلامية في لبنان أسقطت كذب سردية الحركة الصهيونية عن الانتماء إلى تلك الأرض الموعودة بالرغم من المحاولات الحثيثة منهم لتعميق هذا الارتباط بين المستوطن والمكان من خلال مفهوم العمل الزراعي البعيد أصلًا عن عقلية اليهودي المستوطن المحتل، والمعروف عنه جمع المال والثروات، والتي انهارت سريعًا تحت ضربات المقاومة. فقد تركوا بيوتهم ومزارعهم ومصانعهم بسبب الجبن والخوف على حياتهم، في الوقت الذي نرى فيه المواطن الجنوبي اللبناني أكثر تجذّرًا بأرضه وارتباطًا بها وانتماءً إليها مع استعداده الكامل للتضحية بالأرواح في سبيلها ودفاعًا عنها، والبقاء فيها بخلاف ما رأيناه في المقلب الآخر من الحدود من الهروب والرحيل من دون التفكير بالعودة. هذا يؤكّد، أيضًا، تلك المقولات الكاذبة عن الانتماء للأرض والمكان، مثل التخلّي السريع سابقًا من أرييل شارون في العام 2005 عن عددٍ من المستوطنات والقواعد العسكرية في قطاع غزّة والغلاف المحيط به، في إطار الاتفاقيات الموقّعة مع الفلسطينيين.
فعل المقاومة الإسلامية وإصرارها يزيد من قساوة وضراوة المشهد القائم، ويجعله أكثر ضبابة وفوضوية عند العدوّ ويمنع على القيادة السياسية والعسكرية والأمنية "الإسرائيلية" في الكيان الغاصب وضع استراتيجية واضحة للتعامل مع أخطار هذه الجبهة الشمالية وتداعياتها. ومن هنا تبرز أهمية هذا الفعل على المستوى الاستراتيجي الذي قامت به المقاومة، والتي ضربت في صميم تفكير وعقل وخطط وبرامج واستراتيجيات الفريق السياسي والعسكري والأمني "الإسرائيلي"؛ بل ضربت قاسيًا في عقل "الدولة العميقة" لهذا الكيان عن فكرة الاستيطان وديمومته والدور المطلوب منه وحلم بناء "الدولة" علىى أنه إنجاز، وحتمية زواله تحت ضربات المقاومة الإسلامية اللبنانية وصمود الشعب الفلسطيني ومقاومته في الداخل.
خير دليل على ذلك تؤكِّده مقولة موشيه دايان "إنَّ عمر -أي إسرائيل- محدود وعلينا أن نطيله أطول مدة ممكنة"، وإن استمرارية العمل المقاوم في جبهة الشمال أو في الجنوب وتزخيمه تفرضان على حكومة الكيان اتّخاذ خيارات أحلاها مُر، ستؤدّي حتمًا إلى أنهياره وتفكُّكه وزواله، والتي يجسِّدُها أيضًا بوضوح قول رئيس وحدة "أمان" السابق تامير هايمان في أنَّ "إسرائيل" "لن تخسر فقط الأراضي التي جرى التخلي عنها بصفتها قطعة أرض ضرورية للأمن، لكنّها تخسر أيضًا الاستيطان في الشمال كونها رمزًا لـ 140 عامًا من الإنجاز الصهيوني".
فلسطين المحتلةالمستوطنات الصهيونيةالكيان المؤقت
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024