عاشوراء 2024

آراء وتحليلات

محاولة اغتيال ترامب والفوضى الأميركية المؤجّلة
17/07/2024

محاولة اغتيال ترامب والفوضى الأميركية المؤجّلة


منذ ما يقارب العامين قال إمبراطور البرمجيات ورجل الأعمال الأميركي الشهير بيل جيتس "إن الاستقطاب السياسي قد ينهي كلّ شيء، وقد نواجه حربًا أهلية، إنه لأمر جنوني ما يحدث في الولايات المتحدة"، كما عبّر جيتس عن دهشته من كثرة المعلومات المضللة في المجتمع الأميركي. 

لا شكّ أن جيتس قد أطلق صرخته استنادًا إلى الواقع الذي وصلت إليه الجبهة الداخلية الأميركية جراء حدّة الاشتباك والانقسام العمودي الذي وصلت تلك الجبهة، والذي بدأ يلقي بظلاله على كلّ ما هو اجتماعي وسياسي واقتصادي في هذا البلد الذي لطالما تغنّى بالديمقراطية وعمل على فرضها عبر سياساته الخارجية، واستخدمها كأداة للتخلص من خصومه وتوسيع هيمنته ونفوذه. 

وبالتأكيد لم يكن ما قاله جيتس هو المؤشر الأول على ذلك، فالأزمة الحقيقة في الداخل الأميركي بدأت منذ عام 2008  كنتيجة طبيعية للحرب الأميركية على العراق، وتفاقمت لاحقًا على شكل أزمة الدين العام الذي وصل إلى حدود 34 تريليون دولار، وكان من نتائجها وصول الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب للبيت الأبيض في العام 2016. 

ومنذ دخوله البيت الأبيض فإن الرئيس الأميركي السابق، والمرشح الأوفر حظًا للفوز بالانتخابات الرئاسية القادمة دونالد ترامب أثار غضب الدولة العميقة بخطابه الأول في حينها عندما أعلن أنه سينقل الولايات المتحدة من العولمة إلى الوطنية، ليعلن بذلك الشرارة الأولى للمواجهة الشرسة والحادة مع الدولة العميقة، والتي انتهت جولتها الأولى بتمكّن الدولة العميقة من إفشال مخطّط ترامب ثمّ الإطاحة به في انتخابات العام 2020 التي أثيرت شكوك كثيرة حول نزاهتها. 

ويطلق مفهوم الدولة العميقة على منظومة الشركات الأميركية العابرة للحدود، ويشمل ذلك شركات السلاح والنفط والبرمجيات والدواء وغيرها، وتتحكم الدولة العميقة بمفاصل القرار الأميركي بجميع مؤسساته، من البيت الأبيض إلى الكونغرس والبنتاغون والخارجية ووزارة الخزانة، وأجهزة الاستخبارات الأميركية. 

لم تكتف الدولة العميقة التي جاءت بالرئيس الأميركي بايدن وإدارته إلى البيت الأبيض بإسقاط ترامب في الانتخابات الرئاسية عام 2020، بل استمرت في ملاحقته والضغط عليه عبر محاكمات متعددة ومتنوعة لمنعه من العودة للبيت الأبيض مرة أخرى. 

أطلق ترامب التحدّي الثاني للدولة العميقة بإعلانه ترشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة والتي ستجرى بعد أربعة أشهر، وقال في خطاب الترشح: "سنفكك الدولة العميقة ونعيد الحكم للشعب"، معلنًا بذلك عن مواجهة جديدة مع الدولة العميقة، وجعل ذلك شعارًا لحملته الانتخابية. 

وكان لافتًا أن غالبية وسائل الإعلام تعمدت عدم نقل هذا الجزء من خطاب ترامب في حينها، والبعض القليل الذي نقله استبقه بعبارة "اشتعلت النيران بالرئيس الأميركي السابق.. فقال ما قال"، كناية عن أن خطابه كان حماسيًّا أكثر من اللازم ولا ينم عن وعي كامل. ومن المعروف أن وسائل الإعلام الأميركية تمثل إحدى الأذرع المهمّة للدولة العميقة في تمرير سياساتها. 

ونجح ترامب في إقصاء منافسيه من الحزب الجمهوري ليصبح المرشح الوحيد والرسمي للحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية بالرغم من الضغوط الشديدة التي مورست ضدّه عبر المحاكمات القضائية والاتهامات التي وجهت له للتشهير به على المستوى الشعبي. واستغل ترامب ضعف منافسه الديمقراطي والرئيس الحالي جو بايدن وتمكّن من التفوق عليه في المناظرة الأولى التي جرت بينهما ليكتسح بذلك نتائج استطلاعات الرأي التي أعطته نسبًا مرتفعة للفوز.

تشمل القضايا الخلافية بين ترامب والدولة العميقة مجالات عديدة تمس جوهر السياسات الاستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية على الصعيدين الداخلي والخارجي، ويشمل ذلك على الصعيد الداخلي قضايا الإجهاض والهجرة والضرائب وانتشار السلاح الفردي والمثلية الجنسية، وعلى الصعيد الخارجي تشمل العلاقة مع أوروبا والناتو والشرق الأوسط والصين وأوكرانيا والعلاقة مع روسيا. 

وبالعموم؛ فإن استراتيجية الدولة العميقة تقوم على نشر مفاهيم النيوليبرالية على الصعيد الداخلي والخارجي بما فيها الشذوذ الجنسي واللعب بالجنس البشري، وتحويل ذلك إلى أيديولوجيا للتدخل والتحكم والنزاع والسيطرة، بينما يعارض التيار المحافظ الذي يمثله ترامب تلك السياسات ويقف بوجهها وتعهد بمحاربتها وإسقاطها علنًا.

ويمكن توضيح ذلك من خلال الموقف من الحرب الأوكرانية، وكيفية انعكاس هذا الصراع على الجبهتين الداخلية والخارجية للولايات المتحدة، فالديمقراطيّون متحدون حول العقيدة النيوليبرالية على عكس الجمهوريين، حيث ما زال الجناح المحافظ أو التقليدي داخل الحزب الجمهوري يملك ثقلًا وازنًا يمثّله ترامب ويعارض بشدة تشريعات الإجهاض والمثلية، وتجلى ذلك الانقسام في مواقف كلا الجانبين من الحرب الأوكرانية، أو بالإحرى في المواقف من الرئيسين الروسي فلايمير بوتين والأوكراني فلوديمير زيلينسكي، فالأول بات يمثلّ رمزًا للدفاع عن القيم المسيحية، بينما الآخر بات يجاهر بكونه عبدًا لليبرالية الجديدة وقيمها، وانعكس ذلك الموقف في دعم أوكرانيا بالمال والسلاح، وهذا الانقسام الذي بات يطفو على السطح ويحتدم في الداخل الأميركي وعبر وسائل الإعلام الرئيسية، انعكس سلبًا على دعاة الليبرالية الجديدة، بينما زاد من نفوذ المحافظين المعارضين لها، وهو ما صب بالنهاية في صالح ترامب الذي تقدم وفقًا لاستطلاعات الرأي كما ذكرنا. 

انطلاقًا من ذلك يمكن القول إن الدولة العميقة التي عملت طوال أربع سنوات على لملمة الشظايا الترامبية من خلال إدارة بايدن، لا تطيق اليوم وصول ترامب مرّة أخرى للبيت الأبيض، وهي التي فشلت في كلّ محاولاتها لمنعه من ذلك. ولعلّ ما نشره الرئيس الحالي جو بايدن على حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي قبيل ساعات من محاولة اغتيال منافسه ترامب الفاشلة يشكّل أكبر دليل على حجم المازق الذي وجدت الدولة العميقة نفسها فيه، حيث قال بايدن حرفيًا "يجب أن نوقفه" مرفقًا هذه العبارة بصورة لترامب. 

وبغضّ النظر عن تفاصيل حادثة إطلاق النار على ترامب، وسواء كان ما جرى حقيقيًّا أم مدبرًّا لغايات انتخابية، فإن ما جرى يشكّل امتدادًا للمأزق الداخلي الأميركي الذي بدأ يتحول إلى العنف والعنف المضاد منذ حادثة مقتل الأميركي من أصل أفريقي جورج فلويد، واستمر مع كورونا، وصولًا إلى تزوير الانتخابات، واقتحام الكابيتول ومحاكمة ترامب، وليس انتهاء بمحاولة الاغتيال الفاشلة. 

والحقيقة هي أن هذا الانقسام الشاقولي في الداخل الأميركي، والذي يتحول شيئًا فشيئًا إلى العنف، بات ينذر باندلاع حرب أهلية، وإذا كانت نجاة ترامب من محاولة الاغتيال التي تعرّض لها قد أجلت انطلاق الفوضى في الداخل الأميركي، فإنها بكلّ تأكيد قد رفعت من وتيرة ومنسوب الاستعداد والقابلية لحدوثها لاحقًا. 

الولايات المتحدة الأميركيةدونالد ترامبجو بايدن

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة