آراء وتحليلات
بعد الدور الفرنسي المرتقب: هل يتراجع الاميركيون عن الانسحاب من سوريا؟
شارل أبي نادر
صحيح ان الرئيس الأميركي ترامب لم يتصرف بما هو جديد على أسلوبه في الحكم، حيث جاءت أغلب قراراته حتى الان متسرعة، من دون ان يحيطها كما هو مفروض عادة في طريقة ادارة الملفات في البيت الابيض، بمروحة واسعة من الاستشارات والدراسات الامنية والديبلوماسية والسياسية والعسكرية وحتى القانونية، وعليه جاء قرار الرئيس ترامب بالانسحاب من سوريا صاعقا على الجميع، في داخل الولايات المتحدة كما في خارجها. وحيث انه جاء غير مفهوم بالنسبة للحلفاء كما للخصوم في نفس الوقت، يبدو ان العودة عن هذا القرار واردة، او على الاقل، سيتم تجاوز مفاعيله بطريقة او باخرى، وذلك للاسباب التالية:
في الوقائع التي واكبت القرار، وفي التداعيات التي نتجت عن الاعلان عنه، حتى قبل اكمال تنفيذه، يمكن التطرق الى مجموعة ملاحظات، وهي:
لقد احدث القرار شرخا واسعا داخل الادارة الاميركية، تمثل اولا باستقالة وزير الحرب جيمس ماتيس، الذي كان يمثل الصقر الاميركي المتخصص بالعمليات العسكرية خارج الحدود، والذي لعب دور رأس السهم في الترجمة العسكرية لسياسة ترامب الهجومية ديبلوماسيا على كل من روسيا والصين وايران، من خلال تفعيل الانتشار العسكري البحري والجوي الاميركي عبر العالم، ومن خلال اعادة التاسيس للتوتر العالمي وللحرب الباردة ولسباق التسلح، بعد الانسحاب من الاتفاق النووي، وبعد التهديد بالانسحاب من معاهدة خفض الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى.
الشرخ الثاني داخل الادارة الاميركية، الذي احدثه القرار، تمثل بتوافق اغلب صقور الكونغرس، الديمقراطيين كما الجمهوريين، على اعتبار الخطوة متسرعة، ولا تراعي مصلحة الولايات المتحدة الاميركة وحلفائها عبر العالم، كما انها تناقض مفهوم حماية الامن القومي ومصالح الدولة الاستراتيجية.
ايضا، جاء وقع القرار داخل الكيان الصهيوني صادما، والذي ظهر ضعيفا خائفا وحيداً، وكأنه خسر السند الاساس في الشرق الاوسط. وقد أجمع قادة العدو على انه بغياب الوجود العسكري الاميركي المباشر عن سوريا، سوف تميل دفة التوازن الاستراتيجي لمصلحة محور ايران وسوريا وحلفائهما، خاصة في ظل العلاقة المتوترة حاليا بين الروس والاسرائيليين، والتي ما زالت تعاني من تداعيات تَسَبُّب القاذفات الاسرائيلية بإسقاط الطائرة الروسية فوق الساحل السوري.
هذا لناحية موقف الداخل الاميركي للقرار، او لناحية موقف الحليف الاساس لهم في الشرق، اي الكيان الصهيوني، اما لناحية الحلفاء الدوليين الذين يؤلفون التحالف الدولي لمحاربة الارهاب، فقد عبروا عن معارضتهم للقرار، مثل بريطانيا والمانيا وفرنسا، وكان للاخيرة (فرنسا) الموقف اللافت والذي يمكن التطرق اليه كالتالي:
ـ أعربت فرنسا وبشكل رسمي مباشرة بعد الاعلان عن القرار الاميركي، انها ستتابع معركتها ضد داعش في سوريا حتى النهاية، وانها لن تنسحب من التزاماتها في هذا الموضوع، خاصة وانها ما زالت في خضم مواجهة امنية وعسكرية مفتوحة ضد التنظيم، داخل وخارج اراضيها.
ـ مباشرة بعد الاعلان عن القرار الاميركي، طالب مجلس سوريا الديمقراطية من فرنسا بالعمل (امام المجتمع الدولي والمؤسسات المختصة) بفرض حظر جوي في مناطق شمال وشرق سوريا. وصحيح ان هذا الطلب يهدف لمحاولة تأمين حماية للاكراد من العمليات العسكرية التركية المرتقبة ضدهم في الشرق السوري، ولكن تكمن خطورته بالنسبة لفرنسا، من خلال ربطه باعلان قوات سوريا الديمقراطية انها اولا سوف تركز مدافعتها وجهودها العسكرية شمالا اكثر من الجنوب، اي بمواجهة العملية التركية المرتقبة، وليس لإكمال المعركة ضد داعش في حوض جنوب شرق الفرات بين هجين والبوكمال، وثانيا، عندما اعلنت قسد ايضا انه يوجد خطر حقيقي من عدم تمكنها من احتواء سجناء داعش الذين تعتقلهم، وهذا يعتبر بالنسبة للدولة الفرنسية من اكثر النقاط خطورة على أمنها، خاصة ان اغلب هؤلاء السجناء اجانب ومن جنسيات اوروبية وفرنسية بالتحديد.
من ناحية اخرى، تتابعت التصاريح اللافتة لمسؤولين في قسد وفي مجالس شبه الادارة الذاتية، التي يمارسها الاكراد في الشرق السوري حاليا، والتي تصب في مصلحة العودة الى حضن الدولة السورية، من خلال الاستعداد لرفع العلم السوري على جميع المؤسسات الحكومية الرسمية، في منبج او في شرق الفرات، وانها لا تسعى لانفصال عن الدولة المركزية بل تريد فقط الاتفاق على الادارة الذاتية.
ايضا كانت لافتة تصريحات الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، والتي اعلن فيها عن عدم نيته السيطرة على اية اراض سورية واستعداده للتعاون مع روسيا ومع ايران من اجل ارساء الامن في شرق وشمال شرق سوريا، واستعداده للسير بقوة بالمشاريع المشتركة مع الدولتين لايجاد حل سريع وثابت للازمة السورية، والتي تؤثر على الامن القومي التركي.
استنادا لما سبق، في الموضوع الداخلي الاميركي وفي موضع نظرة العدو الاسرائيلي حول القرار الاميركي بالانسحاب من سوريا، ولناحية الاعلان التركي الذي يبدو صادقا هذه المرة، عن الاستعداد للمساهمة الفعالة بحل الازمة السورية بالتعاون مع روسيا وايران، مع الموقف الفرنسي، والذي ظهرت استراتيجية باريس المرتقبة بوضوح من خلاله، بانها سوف تثبّت وجودها اكثر في الشرق السوري، وبانها سوف تلعب دورا اعمق واكثر صدقا من الدور الاميركي مع الاكراد وامنهم ومصالحهم...
كل ذلك، والذي لم يره الرئيس ترامب قبل تسرّعه باتخاذ القرار، ربما يدفعه للتراجع عنه، اولا لان شخصيته المتأرجحة ومواقفه المتناقضة تسمح بذلك التراجع، وثانيا لانه لدى الادارة الاميركية ولدى مؤسساتها الامنية والعسكرية والديبلوماسية القدرة على تغطية هذا التراجع بمناورة اخرى، لن يصعب ايجادها على الادارة الاكثر قدرة في العالم على المناورات.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024