آراء وتحليلات
شهادة قائد المقاومة وسيدها بعيون العراقيين
لم يشهد بلد مثل العراق مظاهر واسعة جدًا، على الصعيدين الرسمي والشعبي، لتأبين الأمين العام لحزب الله اللبناني الشهيد القائد السيد حسن نصر الله، والذي اغتاله الكيان الصهيوني في السابع والعشرين من شهر أيلول/سبتمبر المنصرم، عبر هجمات دموية إجرامية على منطقة الضاحية الجنوبية في العاصمة اللبنانية بيروت.
لقد اتخذت مظاهر التأبين أشكالًا وأساليب مختلفة، بدأت من بيانات العزاء والتنديد بالجريمة الصهيونية مرورًا بمسيرات العزاء الجماهيرية إلى مجالس التأبين التي عمّت شتى مناطق العراق، إلى الصور واللافتات التي ازدحمت بها شوارع وطرقات وأزقة المدن والمحافظات، وليس انتهاءً بالتغطيات المتواصلة لعشرات القنوات الفضائية العراقية عن تأريخ سيرة سيد المقاومة ومسيرته وأبعاد وتداعيات اغتياله، ودور حزب الله في مختلف مراحل الصراع مع الكيان الصهيوني، وصولًا إلى ذلك التفاعل والتعاطف الوجداني الكبير على المستوى الفردي لملايين العراقيين مع حدث استشهاد سيد المقاومة..
هذا التفاعل والتعاطف الذي تجلى واضحًا في فضاء التواصل الاجتماعي، بالرغم من الكثير من القيود المفروضة من الشركات صاحبة المنصات العالمية ("الفيسبوك" و"أكس" و"الانستغرام") لدواعٍ ومعايير سياسية لا تخرج عن سياق السعي المحموم والمتواصل لإضعاف محور المقاومة بالسبل والوسائل كلها.
لم يأتِ كل ذلك الاهتمام الاستثنائي العراقي، رسميًا وشعبيًا، بحدث استشهاد السيد نصر الله من فراغ، بل إنه ارتبط بظروف وعوامل ومواقف تأريخية، جزء منها يتعلق بطبيعة العلاقات بين العراق ولبنان على وجه العموم، وجزء أخر يتعلق بطبيعة العلاقات مع حزب الله تحديدًا، لاسيما عند المنعطفات الحرجة والتحديات الخطيرة والتهديدات الكبيرة.
في الواقع، لقد كان العراق محط اهتمام سيد المقاومة، وكان حاضرًا دومًا في خطبه وكلماته، في إطار إبراز المواقف المتعلقة بمجمل الوقائع والأحداث، والتأكيد على الثوابت والإشارة إلى الحلول والمخارج الواقعية المطلوبة، فضلًا عن التواصل المستمر مع العديد من قياداته ورموزه السياسية والدينية المعنية بشؤون البلاد، ضمن مساحات القواسم والهموم والتحديات المشتركة.
إذ عندما اجتاح تنظيم "داعش" الإرهابي العراق، في صيف العام 2014، كان الشهيد السيد نصر الله يشدد كثيرًا على ضرورة دعم ومساندة هذا البلد، وهو يتعرّض لهجمة بربرية تكفيرية استهدفت مقدساته ورموزه وحضارته وشعبه. وبالفعل كان لحزب الله دور كبير ومهم في ذلك، وحينما تعرضت غزة، ومعها لبنان، لعدوان صهيوني إجرامي قبل عام، لم يترك السيد نصر الله مناسبة إلا وأشار وأشاد بمواقف العراق بمساندة أشقائه الفلسطينيين واللبنانيين في مواجهة الكيان الغاصب.
كما لعل هناك جملة حقائق، لا بد من الإشارة إليها والتوقف عندها، للإحاطة، بصورة موضوعية، بحقيقة ذلك التفاعل والتعاطف العراقي اللافت حيال اغتيال سيد المقاومة.
من هذه الحقائق؛ أنّ حزب الله اللبناني منذ تأسيسه، في العام 1982، أرسى علاقات إيجابية طيبة مع مختلف القوى والشخصيات السياسية العراقية التي كانت تمارس العمل السياسي المعارض لنظام حزب "البعث" – حينذاك- من المهاجر والساحات المختلفة في إيران وسوريا ولبنان وإوروبا. وما ساعد في إرساء تلك العلاقات الإيجابية الطيبة هو انحدار قيادات وكوادر حزب الله من المدرسة ذاتها التي ولدت من رحمها القيادات والكوادر السياسية والجهادية الإسلامية العراقية.
الحقيقة الثانية هي أنه بحكم القواسم الدينية والعقدية المشتركة والثوابت السياسية، بين حزب الله وطيف كبير وواسع من المكونات الاجتماعية والسياسية العراقية، كانت التحديات والمخاطر واحدة أو متشابهة، وهو ما أوجد ظروفًا ملائمة؛ بل وملحّة في كثير من الاحيان، للتعاون والتنسيق وتبادل التجارب والخبرات، والتأسيس تاليًا لمناهج عمل وتحرك ذي طابع استراتيجي يتجاوز الأهداف الآنية المرحلية والحسابات والافاق الضيقة.
الحقيقة الثالثة، تتمثل في أنّ حزب الله اللبناني تعاطى مع مجمل أحداث الساحة العراقية، بعد سقوط نظام "صدام حسين" في ربيع العام 2003 وخضوع البلاد للاحتلال الأميركي، بشكل عقلاني ودقيق. فهو في الوقت الذي لم يُقحم نفسه بتفاصيل الخلافات والاختلافات الداخلية، أكّد مواقفه المبدئية التي لا تعدّ بأي حال من الأحوال تدخلًا بالشؤون الداخلية، من قبيل رفض وجود الاحتلال والتعبير عن الدعم والتأييد السياسي للقوى المناهضة له والساعية إلى إنهائه.
الحقيقة الرابعة، تتمثل بالثوابت المبدئية بين حزب الله والعراق، من قبيل الرفض القاطع للتطبيع مع الكيان الصهيوني بأشكاله ومظاهره وصوره كلها، ومساندة القضية الفلسطينية بأقصى الإمكانات إلى جانب تطابق وجهات النظر أو تقاربها بخصوص مجمل الملفات الإقليمية الأخرى.
لقد ترجم السيد نصر الله قوة العلاقات مع العراق ورسوخها، حينما وجّه بوضع خبرات وتجارب وإمكانات الحزب العسكرية القتالية والأمنية كلها، من خلال المستشارين والخبراء في شؤون المعارك والحروب، بين أيدي العراقيين بعد اجتياح تنظيم "داعش" وصدور فتوى الجهاد الكفائي لآية الله العظمى السيد علي السيستاني، في الثالث عشر من شهر حزيران/يونيو من العام 2014. فقد كان لدور حزب الله الداعم والمساند، ومعه الدور الإيراني، الأثر الكبير جدًا في تطوير القدرات القتالية لمقاتلي الحشد الشعبي، وفي الإسهام بوضع الخطط العسكرية الناجعة لتسريع إلحاق الهزيمة بـ"داعش". فقد انطلق ذلك الدعم والإسناد الاستشاري من حزب الله للعراق، في حربه ضد "داعش"، من حقيقة أنه لم يكن العراق هو المستهدف الوحيد؛ بل إنّ المخطط "الداعشي" التكفيري كان يستهدف منظومة إقليمية واسعة، بدولها وشعوبها ومكوّناتها المتعددة والمتنوعة، ولم يقتصر على مكوّن مذهبي معين، وإن كان المكوّن الشيعي في إطاره العام هو أكبر وأكثر المستهدفين من ذلك المشروع التكفيري.
أضف إلى ذلك؛ أن "داعش" وأخواتها كانت من صناعة أميركا والكيان الصهيوني والغرب، فكان من الطبيعي جدًا أن تكون معارك وحروب الكيان وداعميه مع محور المقاومة هي استمرار لمشاريع هذا التنظيم، والتي استهدفت بالدرجة الأساسية العراق وايران وسوريا ولبنان واليمن، وكلّ من حمل لواء الرفض لواشنطن و"تل أبيب".
إزاء كلّ ما تقدم؛ من الطبيعي جدًا أن يقف العراق إلى جانب لبنان والمقاومة، اليوم، مثلما وقفت هي معه في الأمس. ومن الطبيعي جدًا أن يكون السيد نصر الله حاضرًا بقوة في العراق بعد استشهاده، مثلما كان داعمًا ومساندًا وحاضرًا بقوة مع العراق والعراقيين في حياته.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
19/11/2024