آراء وتحليلات
"البريكس".. حرب استنزاف "الدولار" وعالم بلا عقوبات
عقدت قمة "قازان" المنتظرة بين عمالقة مجموعة "بريكس" الاقتصادية، كان مفهومًا أن الاهتمام العالمي والعربي متراجع قليلًا عن المتابعة، نظرًا للأحداث الساخنة التي تلونها الدماء في كل ميدان قتال، لكنَّ العرب المحتاجين بشدة إلى التنمية وإلى طريق جديد في إدارة اقتصادهم كانوا –كالعادة الذميمة- أكبر الخاسرين، فوتنا من جديد فرصة مجانية منحتها لنا الأيام البخيلة لتحريك الجسد بعيدًا عن قطار التبعية، ولم تكن فرصة بسيطة ولا فرصة سهلة.
ولكي تكون الأوصاف واضحة وتستند إلى مبادئ ثابتة، فإن وصف عمالقة الاقتصاد ليس من فراغ، طبقًا لتصنيفات البنك الدولي، وترتيب دول العالم بالناتج المحلي الإجمالي مقومًا بتعادل القوة الشرائية (P.P.P)، وهي الطريقة الأدق لحساب حجم اقتصاد ما، فإن ترتيب دول العالم اقتصاديًا يأتي على النحو التالي: 1- الصين 2- أميركا 3- الهند 4- روسيا 5- ألمانيا، ولا عزاء لصبيان الغربي.
وقبل ذلك، خلقت روسيا والصين نظام التبادل الجديد بينهما بالاعتماد على العملات المحلية للتسوية، وهذا ما كانت تعوزه فكرة نهاية هيمنة الدولار بالأساس، لم يعد السؤال هو هل ينهار الدولار وينزل من القمة التي بقي فيها من بعد الحرب العالمية الثانية، بل تحول إلى صيغة أقرب للواقع، هي: متى سيسقط، وكيف سيسقط؟
مخاض طويل وصعب
يتدخل الخبير الاقتصادي المرموق د. رائد سلامة، قائلًا إنه من المهم جداً أن يتم رسم سياسات وتحديد أهداف هذا النوع من مؤسسات التحالفات الدولية بطريقة علمية تراعي الظروف "الجيوسياسية" العامة وتأخذ بالاعتبار ما يفرضه الواقع من شروط موضوعية وبحيث لا تتحول محفزات تلك الأهداف من الأحلام المشروعة بمستقبل أفضل إلى ما يشبه الكوابيس. ولهذا وباعتباري واحداً من أوائل من دعوا لدخول بلادنا لمثل هذه المنظمات الدولية وعلى رأسها "بريكس" ومنظمات اخرى مثل منظمة "شنغهاي" التي تشارك فيها مصر كمحاور، فلا بد لنا من الانعتاق من سيطرة الدولار الأمريكي على معاملاتنا المالية والاقتصادية، لكن الظن أن الدولار سيظل عملة قوية بحكم اعتباره هو عملة التداولات الدولية في "سويفت" وبحكم سيطرة أمريكا السياسية وحلفائها في الاتحاد الاوروبي ودول تحالف "الناتو" -وبالطبع سفاحي الكيان الصهيوني على موارد ومقدرات مجتمعات عديدة.
وتوقع سلامة لمؤسسات "البريكس" الوليدة نجاحاً على المستوى طويل المدى لو تم إعداد خطط موضوعية لذلك، وتمنى على أعضاء "البريكس" أن يراعوا الظروف الدولية الحالية ويضعوا من الخطط الموضوعية -غير الانفعالية أو المدفوعة بالعاطفة- ما يرسخ تحركهم خطوات مدروسة للأمام على طريق الانعتاق.
أمل جديد
ينفي المفكر والكاتب د. مصطفى السعيد أن تكون قرارات قمة مجموعة "بريكس" مجرد تجربة، ويقول في تصريحات خاصة لموقع "العهد الإخباري"، إن في العالم اليوم إشارات قاطعة إلى ميلاد فجر جديد، موضحًا أن منظمة "بريكس" تتمدد بمشروعاتها الواعدة في إعادة بناء عالم أكثر عدالة، تتحرر فيه التجارة العالمية من منظومة "السويفت" والدولار، عالم بدون عقوبات ولا شروط إذعان من صندوق النقد والبنك الدوليين على الدول المقترضة، وإنما علاقات دولية تحترم سيادة الدول وخصوصيتها الثقافية والأخلاقية.
أضاف السعيد، أن التعهدات من قادة "بريكس" سبقها تدشين نظام موازٍ لمنظومة سويفت، ونظام للتبادل التجاري بعملات رقمية بعيداً عن رقابة وعقوبات واشنطن والغرب، وقروض بلا شروط تتعلق بتعويم العملات أو بيع الملكيات العامة أو رفع الدعم والأسعار، كما دعت إلى منظومة أممية جديدة لا تحتكر دول الغرب إدارتها لصالحها، وإنما تعامل كل دول العالم على أسس عادلة.
تعهدات حازمة
في القمة الأخيرة، تعهد زعماء دول "البريكس" بالاستمرار في مشروعها لإرساء قوانين عالم أكثر عدالة وكفاءة، تنكسر فيه هيمنة الشيطان الأميركي على الأدوات المالية والنقدية "السويفت والدولار"، وإنهاء قدرة أو رغبة دولة وحيدة على إنشاء نظام عقوبات طبقًا لمصالحها وإجبار كل العالم على تطبيقه، وعلاقات تحترم سيادة الدول واستقلالها وخصوصيتها، وتم بالفعل تدشين نظام موازٍ لمنظومة "سويفت"، ونظام للتبادل التجاري بعملات رقمية بعيداً عن رقابة وعقوبات واشنطن والغرب، وهذا أهم قرار ربما في العقود الأخيرة، قادة "بريكس" لم يهملوا البروباغندا، فنشروا صور "عملة بريكس" الافتراضية الجديدة، في رسالة أليمة لواشنطن.
في قمة "قازان" التغيير الحقيقي أو الثورة على نظام التبادل الاقتصادي العالمي القائم على الدولار الأميركي وحده، لم يعد أحلامًا بعيدة أو آمالًا معلقة في الهواء، وكسر ما كانت تبثه الدعايات الغربية المكثفة من أن الصين تسعى لإحلال اليوان مكان الدولار بشكل تدريجي، أي وضع غول أصفر مقابل خروج الغول الأخضر، ما أعلنته دول مجموعة "بريكس" هو إصلاح للنظام النقدي الدولي باستبعاد خضوع العالم لسطوة عملة محددة، سواء أميركا أو الصين أو أوروبا، وإلغاء فكرة عملة الاحتياط الدولية، عبر نظام معاملات جديد يقوم على تسوية التبادلات الدولية بالعملات المحلية، وفق طريقة تسوية المعاملات بين روسيا والصين الآن، على سبيل المثال، حيث يجري التبادل التجاري بينهما بالعملات المحلية اليوان والروبل.
والواقع أن هذا التوجه العالمي الجديد يتسق مع المعطيات والحقائق الفعلية، فلم يعد الاقتصاد الأميركي هو الأضخم في العالم، ولا عاد الدولار هو الحاكم بأمره دون شريك ولا تهديد في الأسواق والمبادلات، صندوق النقد الدولي –وهو جهة أميركية الميول والأهداف- يقول إن نسبة الدولار في سلة احتياطيات البنوك المركزية حول العالم قد تراجعت من 71% في العام 1999 إلى 59% في الربع الرابع من العام 2020، كما تراجعت تلك الحصة حاليًا لأقل من 48% من احتياطيات البنوك المركزية لكل بلدان العالم، مع تزايد المخاوف والارتدادات من تعامل الاحتياطي الفيدرالي الأميركي مع أزماته الاقتصادية، ومحاولة عبورها عبر تصدير التضخم لباقي العالم وجني الأرباح على حساب الجميع.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
02/11/2024