آراء وتحليلات
الشهيد القائد نصر الله والعراق.. رابطة المبدأ والولاء
عامان قضاهما في العراق(1976-1978)، كانا بمثابة الركيزة والأساس لعلاقة طويلة اتخذت أبعاداً سياسية واجتماعية وإنسانية وعقائدية وجهادية، وترسخت وتجذرت مع مرور الزمن، وتعاقب الوقائع والأحداث، وتشابك وتداخل القضايا والملفات.
في عام 1976، توجه الشهيد السيد حسن نصر الله، ولمّا يتجاوز الستة عشر ربيعا في ذلك الحين، إلى العراق، وتحديداً إلى مدينة النجف الأشرف، حيث الحوزة العلمية التي تعد أقدم وأعرق المراكز الدينية في العالم الإسلامي، وهناك انخرط في دراسة العلوم الدينية على أيدي كبار العلماء، وكان مخططاً أن يواصل دراسته وتحصيله الحوزوي، بيد أن طبيعة الظروف السياسية التي شهدها العراق أرغمته على العودة إلى لبنان.
وكان للمرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره الشريف)، تأثير كبير في تحديد مسارات حياة السيد نصر الله، وهو الذي تنبأ منذ وقت مبكر بالأدوار القيادية الكبيرة والمهمة التي من الممكن أن يضطلع بها لاحقاً.
شخصية استثنائية في ظروف استثنائية
وبخصوص شخصية الشهيد السيد حسن نصر الله، يقول السياسي والباحث العراقي جمعة العطواني، في حديثه لموقع "العهد" الإخباري الذي التقى السيد الشهيد لمدة ست ساعات في عام 2019، "عندما نتحدث عن شخصية سيد شهداء المقاومة، فإننا لا نتحدث بعواطف وانفعالات وميول شخصية وسياسية واجتماعية بقدر ما نتحدث عن واقع حال عاصرناه وعشناه ولمسناه من سماحة السيد الشهيد. وهذه الاستثنائية في شخصيته جاءت ارتباطاً باستثنائية الظروف التي صنعتها وبلورتها، وكأنما أريد للسيد الشهيد أداء مهمة ذات طبيعة استثنائية، لهذا وجدنا رعاية الله سبحانه وتعالى له، وهي أيضاً كانت رعاية استثنائية، حيث إن هذا الشاب اليافع الذي جاء إلى النجف الأشرف في منتصف السبعينيات من ضواحي جنوب لبنان، كأنما جاء من فيض إلهي ليكون تلميذاً تحت رعاية المرجع الكبير والفيلسوف الشهيد السيد محمد باقر الصدر، وهذه بالتأكيد تعد واحدة من القضايا الغيبية، حينما تجد شاباً يأتي من جنوب لبنان ليلتقي حصراً بسماحة المرجع الاستثنائي، وكما شاهدنا وتابعنا اللقاء المتلفز الذي يتحدث فيه الشهيد السيد نصر الله عن لقائه بالشهيد الصدر، هذه الرعاية من الشهيد الصدر للسيد نصر الله صنعت منه شخصية استثنائية لأن السيد الشهيد الصدر كان شخصية استثنائية بعلمه وفقهه وجهاده وتواضعه وترابيته، وكل هذا وجدناه ولمسناه لمس اليد فيض سماحة السيد نصر الله بعلميته وجهاده وتواضعه وبساطته".
ويعرج العطواني في حديثه عن سيد شهداء المقاومة، وهو يستذكر الكثير من تفاصيل لقائه به، الى العبارات والمفردات التي استخدمها المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد علي السيستاني في تأبين الشهيد نصر الله، و"هي مفردات وعبارات تعبر عن تقييم دقيق لمسيرة وشخصية ذلك الرجل، علماً أن المرجع السيستاني لا يجامل ولا يطلق الكلام كيفما اتفق، بل إن المعروف عنه هو تشخيصه الدقيق والموضوعي للأشخاص والأحداث".
ويقول العطواني: "هناك مصطلحات عند الفقهاء لايفقهها إلا أرباب الحوزة العلمية، وعندما يصطلح على طالب الحوزة العلمية أنه حجة الاسلام أو العلاّمة، فهذا يعني أنه مجتهد، وهذا ما شاهدناه من بيان المرجع السيد السيستاني في تأبين السيد نصر الله، إذ وصفه العلّامة حجة الإسلام، وهذا المصطلح عندما يستخدمه المرجع فإنما يدل على اجتهاد وفقاهة وعلمية الموصوف به، فالسيد نصر الله فقيه ومجتهد بلا أدنى شك بشهادة المرجع الكبير السيد السيستاني".
العراق حاضراً في وجدان الشهيد نصر الله
وعلى طول الخط، كان العراق حاضراً في وجدان الشهيد السيد حسن نصر الله، سواء في عهد نظام حزب البعث الديكتاتوري، حيث كان السيد الشهيد متواصلاً مع مختلف قوى وشخصيات المعارضة العراقية، وداعماً بشتى السبل والوسائل لكل الجهود الرامية لإنهاء الظلم والطغيان على الشعب العراقي، أو في المرحلة اللاحقة التي شهدت الكثير من المخاطر والمصاعب والتحديات في ظل الاحتلال الأميركي والإرهاب التكفيري-القاعدة وداعش.
وحتى لا نذهب بعيداً ونستغرق في التفاصيل والجزئيات، فإن أدوار حزب الله اللبناني، ومواقف السيد نصر الله بدعم ومساندة العراق في تصديه لزمر وعصابات تنظيم داعش الإرهابي في عام 2014، وعلى مدى أكثر من ثلاثة أعوام، كانت مشهودة ومشرّفة.
ويشير القيادي في الحشد الشعبي، أبو كميل الموسوي الذي كان قد التقى الشهيد السيد نصر الله مع مجموعة من المجاهدين العراقيين، بعد اجتياح تنظيم داعش لمدن ومناطق عراقية عديدة في حزيران-يونيو 2014 وارتكابه مجازر بشعة ضد الأبرياء. في حديثه للـ"العهد" "وجدت السيد الشهيد مهتماً أقصى درجات الاهتمام، وقلقا إلى أقصى الحدود حول العراق والعراقيين، كما لو أن عصابات داعش اجتاحت مدن لبنان".
ويضيف المجاهد أبو كميل الموسوي قائلا، "إن السيد نصر الله، ذلك الإنسان المتواضع البسيط في سلوكه وتعامله، والكبير في عقليته وعطائه وفكره وزهده، كان يحمل هموم الأمة، ويفكر بأفضل السبل وأقصر الطرق للتغلب على التحديات والتهديدات، وجلّ همومه كانت تتركز على أوضاع المسلمين في فلسطين واليمن والعراق وسورية، وحتى على اوضاع غير المسلمين في بقاع أبعد، وهذا ما سمعته منه شخصياً طيلة ساعات طوال من البحث والنقاش".
وهذا ما يؤكده العطواني بقوله، "بالنسبة لرؤية سيد شهداء المقاومة للعراق والعراقيين، فهي بالتأكيد رؤية كل من عاش وتربى وارتوى من ماء الفرات، وعاش في كنف النجف الأشرف بعلمها وفقهها وعنفوانها وكذلك في حوزتها، وتربى بين علمائها ورجالها، وبالتأكيد تبقى تلك الذكريات عالقة في وجدانه، وهذا ما لمسناه وشاهدناه في لقائنا به، وكذلك عبر عشرات الخطب والكلمات التي كان يلقيها في مختلف المناسبات".
وبالفعل، فإن السيد نصر الله كان أول المبادرين إلى ارسال أفضل الخبراء والمستشارين العسكريين والأمنيين في حزب الله لمساندة إخوانهم العراقيين في الحشد الشعبي لمواجهة تنظيم داعش الإرهابي، وقد سقط بعضهم شهداء وسالت دماؤهم على أرض العراق، وامتزجت مع دماء الشهداء العراقيين، وأكثر من ذلك فإنه كان متواصلاً دون انقطاع مع قيادات الحشد الشعبي، للبحث في مختلف الخيارات وتوفير أقصى الإمكانيات لتحقيق النصر وإلحاق الهزيمة بداعش بأسرع وقت ممكن. ولم يكن ذلك خفيًا، بل إن قيادات الحشد ومختلف الشخصيات السياسية العراقية، كانت تشيد وتثني وتثمن مواقف السيد نصر الله وحزب الله، وفي مقدمتهم وأبرزهم الشهيد أبو مهدي المهندس.
استمرار بعد الغياب..
"ورغم موقعه القيادي وتصديه لأخطر القضايا التي كانت تحتم عليه أن يكون قويًا، فإنه في ذات الوقت، كان يمتلك قلباً رقيقاً وعطوفًا وخاشعًا، يتفطر ألمًا على الناس الفقراء والمساكين والمستضعفين، وهذا ما لمسناه فيه عن كثب، وبإمكان كل إنسان أن يرى تلك الدمعة الرقراقة، وهي تسيل من عيني السيد الشهيد وهو يتلو الأدعية ويلقي المحاضرات الدينية في شهر رمضان المبارك، والمحاضرات الحسينية الثورية في شهر محرم الحرام، وهكذا كان السيد الشهيد ما بين شهر رمضان الخشوع والتذلل والانكسار والارتباط بالله سبحانه وتعالى، وشهر محرم الحرام وما يحمله من ثورية وهيجان في القلب والقوة والتصدي للاستكبار العالمي".
وهذا ما قاله السياسي والباحث جمعة العطواني، وهو يتحدث بأسى وحزن كبيرين على فقدان رجل عظيم مثل سيد شهداء المقاومة.
وهو -أي العطواني-يقول "إنني حين التقيت بالشهيد السيد نصر الله، واستمعت إليه، وتأملت في تعامله وحنوه الإنساني، استحضرت الكثير من مناقب وصفات وخصائص جده أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام".
وبنفس المعنى يتحدث أبو كميل الموسوي، فيقول، "حينما التقيته، وكانت تلك هي المرة الأولى، انبهرت ببساطته وتواضعه وأريحيته وهدوئه وحسن استماعه وإصغائه للمقابل، بحيث تشعر كأنك تجلس مع صديق حميم، لا مع قائد ثوري وزعيم سياسي كبير ومهم".
ولعل كل تلك الانطباعات، ترجمتها بأوضح وأجمل صورة مشاعر ملايين العراقيين التي بكت ونعت وأبَّنت سيد شهداء المقاومة بمظاهر وأساليب وأشكال متنوعة. وكل ذلك كان نتاج العلاقة الطويلة -التي احتضنت بذرتها الأولى أرض النجف الأشرف قبل نحو خمسين عاماً-بين العراق بحوزته وعلمائه ومجاهديه وشعبه من جهة، والسيد الشهيد حسن نصر الله وحزب الله ولبنان بمسيرته وسيرته الحافلة من جهة أخرى..
إنها أولاً وأخيرًا، رابطة المبدأ والولاء، التي استمرت وسوف تستمر حتى بعد الغياب.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
19/11/2024