آراء وتحليلات
إسقاط "غلوبال هوك" يحبط "تل ابيب": الردع الأميركي الى تراجع
جهاد حيدر
لم يعد القلق الإسرائيلي من مستقبل خيارات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إزاء ايران، مجرّد تقدير نظري يستند فقط إلى نظرة محددة ازاء شخصية ترامب وأولوياته ودوافعه الداخلية الانتخابية، بل بات يستند ايضا الى تجربة واختبار واقعيين، تمثلا باسقاط الدفاع الجوي الايراني للطائرة الاميركية المسيرة والاكثر تطورا في العالم. وهو حدث يتجاوز في رسائله البعدين العسكري والاستخباري، وبات واضحاً أن مفاعيله الردعية والاستراتيجية هي الاكثر حضوراً وتأثيراً في مجرى الاحداث.
رغم حساسية انتقاد ترامب في "اسرائيل"، إلا أنهم لم يتمكنوا من ضبط أنفسهم فتوجهت اليه الاتهامات على أنه رجل أقوال وليس رجل أفعال. الخيبة الاسرائيلية نبعت من أن تتحول حادثة اسقاط الطائرة الى بداية الحرب الايرانية - الاميركية، التي كانوا وما زالو يتمنوها ويسعون اليها. لكن ذلك لم يحدث. والأهم بالنسبة لـ"اسرائيل" أن سبب عدم نشوبها لا يعود الى كون ايران خضعت واعتذرت، بل لأن الرئيس الاميركي ارتدع عن اتخاذ قرار الرد على اسقاط الطائرة. وبحسب سرديته للموقف الذي اتخذه أنه ألغى أمر العمليات العسكرية ضد إيران بعدما علم أنها ستؤدي الى سقوط 150 قتيلا.
رسائل ومؤشرات
عملية اسقاط الطائرة الأميركية، بصاروخ ايراني، جزء وامتداد لسياسة الرد المتدرج الذي انتقلت اليه الجمهورية الاسلامية بعدما انتهت مدة الصبر الاستراتيجي الذي استمر لمدة سنة منذ خروج الولايات المتحدة من الاتفاق. ومما يلاحظ ايضا أنه منذ ما بعد قرار الرد المتدرج تحوّلت مسار الضغوط. اذ لم تعد ايران فقط هي من تتعرض للضغط بل باتت ايضا الأطراف الأخرى تتعرض لضغوط يتوقع أن تأخذ مساراً تصاعدياً.
تنطوي سلسلة التطورات التي شهدتها المنطقة، وصولا الى اسقاط الطائرة الاميركية، على مؤشر أساسي مفاده أن رهانات واشنطن – تل ابيب، في اخضاع إيران وفرض شروطهما لم تكن في محلها. فقد ارتكزت الخطة الاميركية على تصور مفاده أن ايران مردوعة عن المبادرة الى أي خطوة مضادة تدفع فيها الضغوط عن شعبها وسيادتها. لكن الذي حصل كان صادماً اذ اعلنت ايران عن عزمها تخفيف التزاماتها النووية من ضمنها رفع مستوى التخصيب في السابع من تموز المقبل.
على وقع هذه الصدمة حاول نتنياهو احتواء مفاعيل الصورة التي بدأت تتبلور حول فشل منطلقات الرهان الذي استند اليه ترامب، وبتشجيع منه. حيث رفض خلال لقائه مع مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون، مقولة إن "العدوانية" الايرانية بدأت بعد خروج واشنطن من الاتفاق النووي وفرض عقوبات على ايران، معتبراً أنه "عندما تم رفع العقوبات عن إيران قبل عدة سنوات في إطار الاتفاقية النووية وبدأت عشرات المليارات من الدولارات تدخل الخزائن الإيرانية، ازداد حجم العدوان الإيراني بشكل دراماتيكي"، مضيفا أن "كل الذين يصفون الأحداث الأخيرة كأنها فتحت عش دبابير يعيشون على كوكب آخر". ويريد نتنياهو بهذا الموقف أن يغير الصورة التي تبلورت حول مفاعيل القرار الاميركي بفرض العقوبات على ايران، التي ذهبت في اتجاه مغاير لما كان يروج له نتنياهو.
في المقابل، انطوى تبرير ترامب بالامتناع عن الرد على اسقاط الطائرة الاميركية، على الكثير من الرسائل والمؤشرات. فقد صاغ ترامب في البداية مبرره بما لا يتلاءم مع التقنية التي تعتمدها المؤسسة العسكرية في عرض خياراتها على القيادة السياسية من أجل أن تتخذ خيارها النهائي. وقال إنه قبل عشر دقائق من بدء الهجوم قال له جنرال إن الرد الاميركي سيؤدي الى مقتل 150 ايرانيا، في حين أن القيادة العسكرية عندما تقترح خياراتها، تقدم ايضا كلفة وجدوى ونتائج وتداعيات كلٍّ من هذه الخيارات وما هي تقديرها لردود فعل الطرف المقبل، وخياراته. ثم تلا ذلك كلام على لسان نائب الرئيس الاميركي، مايك بنس، الذي زعم أنه وردت معلومات استخبارية الى الرئيس حول امكانية أن لا تكون قيادة عليا على علم باسقاط الطائرة... وهكذا. ويتضح من حجم التقارير الصحفية والمواقف الرسمية حرص المؤسسة الاميركية على محاولة التقليل من اضرار الارتداع عن قرار الرد. وبدا أن الهم منصب على محاولة احتواء مفاعيل صورة واشنطن كقوة مردوعة في مواجهة الجمهورية الاسلامية.
الأطراف المعنية الأساسية بالانتصار الذي حققته الجمهورية الاسلامية في هذه الجولة، تتمثل بكيان العدو والنظامين السعودي والاماراتي، اضافة الى شعوب ودول المنطقة. لكن يبدو أن حالة من الرعب المكبوت تسود في "تل ابيب" ازاء ما ستؤول اليه التطورات. وممن عكس هذه الحالة، محلل الشؤون الاميركية في صحيفة "هآرتس"، حامي شاليف، الذي اعتبر أن قرار ترامب إلغاء الضربة من المفترض أن يؤدي إلى "تحطيم الغطرسة التي تحيط بنتنياهو منذ الانتخابات الأميركيّة عام 2016"، مشبّهًا ذلك بـ"التحوّل المفاجئ في الأقدار" أو "الفاجعة" التي تميّز التراجيديا اليونانيّة القديمة، بتشخيص أرسطو، حين يكتشف البطل عيبًا قاتلًا في الشخصيّات، "وفي حالة ترامب، عيوب قاتلة في شخصيّته".
الواضح أن الخوف لدى نتنياهو الآن من أمرين: انهيار إستراتيجيّته لمواجهة إيران، وأن يؤدي ذلك إلى خسارته في الانتخابات المقرّرة في السابع عشر من أيلول/ سبتمبر المقبل. ويعود منشأ هذا القلق المرعب، الى كون ما جرى أثار شكوكاً حول فعالية وجدوى السياسات المعتمدة تجاه ايران، والتي ساهم نتنياهو في هندستها. وبتقييم اجمالي، خلاصة ما أدت اليه هذه السياسة حتى الآن، أنها تسببت بتفكيك التحالف الدولي الذي دعم الاتفاق النووي، وسمح لايران بأن تناور بين واشنطن وبين العواصم الأوروبيّة، وبدأت مسار العودة الى ما قبل الاتفاق النووي. والأخطر، أن هذه السياسة تتجه نحو طريق مسدود سوف يؤدي إما الى فشل دولي أو الى حرب لا يريدها.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024