إنا على العهد

آراء وتحليلات

هل تنسحب تركيا من العراق بعد حلّ حزب العمال؟
06/03/2025

هل تنسحب تركيا من العراق بعد حلّ حزب العمال؟

يعدّ الإعلان التأريخي لزعيم حزب "العمال الكردستاني التركي المعارض"(PKK)، القابع في سجن انفرادي منذ ستة وعشرين عامًا في جزيرة إيمرالي، عبد الله أوجلان، بحلّ حزبه والدعوة إلى إلقاء السلاح، بعد أكثر من أربعة عقود من الكفاح المسلح، تحولاً كبيرًا وانعطافة مهمة في مسار العلاقة بين هذا الحزب والسلطات التركية الحاكمة، فضلاً عن كونه-في حال تحقق-سوف يفضي إلى إعادة ترتيب الأوراق في رقعة جغرافية واسعة شهدت صراعات ومواجهات دامية، أزهقت وسفكت فيها الكثير من الأرواح والدماء.

لا شك أن قرارًا من هذا القبيل، لا بد أن تكون له انعكاسات وارتدادات على قوى كردية وأطراف إقليمية مختلفة، وربما كان العراق من بين ابرز المعنيين أو المتأثرين بحلّ حزب العمال، وطوي صفحات خيار استخدام السلاح والركون لخيار السلام.

ولأسباب وظروف وحقائق جغرافية وأمنية وسياسية، كان العراق منذ وقت مبكر، ومن دون إرادته، جزءًا من ميدان الصراع والمواجهة المسلحة بين الدولة التركية وحزب العمال.

فقادة الحزب ومؤسسوه، وجدوا في منطقة جبال قنديل الواقعة في المثلث الحدودي العراقي-التركي-الإيراني، الخيار الأنسب جدًا ليكون قاعدة وموطئ قدم للحزب، يمكن الانطلاق منها للدخول إلى الجغرافيا التركية من جهة الجنوب.

ونظراً للطبيعة الجبلية الوعرة لتلك المنطقة، لم يكن ممكنًا للجيش العراقي بسط نفوذه عليها بالكامل، وكذلك لم يكن ممكنًا للجيش التركي وضع اليد عليها والتحكم بها.

والشيء الآخر، أن انشغال النظام العراقي بحربه ضد إيران في ثمانينيات القرن الماضي(1980-1988) وصراعه مع القوى الكردية المعارضة له، والاضطرابات السياسية في تركيا بفعل الانقلابات العسكرية وتداعياتها حينذاك، كل ذلك أتاح لحزب "العمال" تكريس وتوسيع وجوده العسكري في شمال العراق، وبالتالي خلق مزيد من عدم الاستقرار هناك، ما دفع أنقرة إلى العمل والتخطيط على محاصرته وتطويقه ومنعه من تهديد الأمن القومي التركي، عبر اتفاقيات مع الحكومة العراقية أتاحت لها الدخول في عمق الأراضي العراقية لملاحقة عناصر وتشكيلات الحزب.

ومع مرور الوقت، وضعف نظام الحكم العراقي بعد حرب الكويت في عام 1991، وخضوعه للحصار والعقوبات، وخروج محافظات الشمال الثلاث من سطوته وفقاً لإرادات دولية، وجد كل من حزب "العمال" وتركيا الظروف مؤاتية للتمدد وترسيخ وجودهما على الأراضي العراقية. ومن ثم جاء إسقاط النظام العراقي وخضوع العراق للاحتلال والهيمنة الأميركية في عام 2003، وفي ما بعد، ظهور التنظيمات الإرهابية، كـ"القاعدة" في عام 2005، ثم "داعش" في عام 2014، ليصبح جزء من الأراضي العراقية ميدانًا لصراع مسلح متواصل بين تركيا والحزب، وأكثر من ذلك، لم يعد ميدان الصراع منحصرًا بمنطقة جبال قنديل ومحيطها الجغرافي الضيق، بل إنه امتد ليصل إلى مساحات من محافظات السليمانية وأربيل ونينوى، وربما محافظات أخرى، بحيث بات الـ(PKK)، يملك مقرات سياسية وعسكرية عديدة، ونفس الشيء بالنسبة لتركيا التي أنشأت خلال العقدين المنصرمين عددًا لا يستهان به من القواعد العسكرية الدائمة وغير الدائمة في العراق، ناهيك عن المقرات الاستخباراتية.

كل ذلك تسبب بمزيد من التأزم في العلاقات بين بغداد وأنقرة، وانعكاس العمليات العسكرية التركية المتواصلة في داخل حدود الجغرافيا العراقية على ملفات تقاسم المياه، والوضع السياسي العراقي المتسم بقدر من الارتباك نتيجة التقاطعات بين قواه السياسية الممثلة لمكوناته المختلفة.

إزاء كل ذلك، وعلى ضوء قرار أوجلان الأخير بحلّ حزبه والتخلي عن السلاح، هل ستتجه تركيا إلى الانسحاب من العراق، والتأسيس لمرحلة جديدة من العلاقات معه

ورغم انطلاق الدعوات من قوى وشخصيات سياسية عراقية لتركيا من أحل إنهاء وجودها العسكري الكبير في العراق، ارتباطاً بمبادرة أوجلان، فإن هناك من يرى أن الوقت ما زال مبكراً جداً لاتخاذ مثل هذه الخطوة، لأنه لم يتضح إلى الآن موقف قيادة حزب العمال الناشطة في الميدان لا القابعة في السجن الانفرادي التركي بقبضة أجهزة ورجال الأمن. ولم يتضح بعد فيما إذا كان كل عناصر الحزب بمختلف مستوياته، سيلتزمون بقرار زعيمهم الروحي ومؤسس حزبهم، أم ستتقاطع المواقف والآراء وتتصادم التوجهات؟، ولم تتضح حتى الآن مواقف فروع الحزب الموجودة هنا وهناك، مثل قوات "سوريا الديمقراطية" (قسد) في سورية وغيرها؟.  

هذا من جانب، ومن جانب آخر، من يقول إن تركيا في توسعها وتمددها العسكري والاستخباراتي والسياسي داخل العراق، تهدف فقط إلى ملاحقة حزب العمال والمحافظة على أمنها القومي دون أي أهداف أخرى؟، في وقت برزت وتبرز باستمرار الكثير من الدلائل والمؤشرات على انها-أي  تركيا-تسعى إلى استعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، وتعتبر إعادة ضم محافظتي كركوك والموصل العراقيتين من بين أهم أولوياتها في هذا السياق، إذ إن ساسة وقادة عسكريين أتراكاً لا يتحرجون في بعض الأحيان من الحديث الصريح عن ذلك.

 وبما أن مجمل القراءات تذهب إلى أن حسم وإغلاق ملف حزب "العمال"، إذا كان ممكناً، فهو يتطلب وقتاً طويلاً وخطوات متعددة، وهذا يعني أنه على المدى المنظور، ستبقي تركيا على وجودها العسكري في العراق كما هو. بيد أن المطلوب من الحكومة العراقية العمل والتهيئة للمرحلة أو المراحل المقبلة، وترتيب الأوراق بنسق آخر، لوضع مطلب أو خيار إنهاء الوجود التركي في مقدمة المطالب والخيارات، وربطه بالملفات الاقتصادية والتجارية والأمنية بين بغداد وأنقرة، كمشروع طريق التنمية، والاستثمارات الواسعة لعشرات الشركات التركية في السوق العراقية بمختلف القطاعات، وتنسيق المواقف في بيئة إقليمية مضطربة دوماً، تتداخل وتتشابك فيها المصالح والحسابات والتوجهات.     

وحتى في حال لم تنته الأمور إلى حل حزب "العمال" وإلقاء سلاحه، فإن ملف الوجود التركي، وما يسببه من انعدام للأمن والاستقرار، وضرر اجتماعي واقتصادي  وأمني كبير لأعداد هائلة من الناس القاطنين في المدن والمناطق الحدودية العراقية، يفترض أن يغلق بطريقة ما، ولا خيار آخر أمام أصحاب الشأن والقرار في بغداد، وأنقرة كذلك، طال الوقت أم قصر.
 

العراقتركياحزب العمال الكردستاني

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة