آراء وتحليلات
"بيت العنكبوت" مقابل "الجدار الحديدي"
جهاد حيدر
ليس أمرًا عابرًا حقيقة أن أصداء وتداعيات مفهوم بيت العنكبوت، ما زالت تتردد على ألسنة القادة والخبراء في "تل ابيب"، بعد مضي 19 عامًا على الخطاب الذي أطلقه أمين عام حزب الله سماحة السيد حسن نصر الله في خطاب التحرير عام 2000. وليست ظاهرة عابرة، أن تفشل مؤسسة القرار والدعاية المضادة في "تل ابيب"، في احتواء مفاعيل هذا الشعار، وإخماد جذوته التي ما زالت تتجدد مع كل محطة سياسية أو أمنية. مع ذلك، تبقى هناك خصوصية بأن يجد رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو نفسه مضطرًا لتكرار محاولاته لنفي أن تكون "إسرائيل" "بيت العنكبوت" خلال كلمته قبل أيام في ذكرى حرب العام 2006، في جبل هرتسل.
لماذا يعود شعار "بيت العنكبوت" إلى الواجهة من جديد على لسان نتنياهو؟ لماذا حفر هذا الشعار في الوعي الإسرائيلي؟ ما هو سر هذا الأثر الكبير الذي تركه على الواقع الإسرائيلي؟ أي خصوصية اتسم بها؟ هل هي مرتبطة بمضمونه، أم بمن أطلقه، أم بسياقه وتوقيته؟ ما هي الخطورة الكامنة في هذا الشعار، حتى يضطر القادة الإسرائيليون على تكرار الاشارة اليه؟ كيف حاول نتنياهو دحض هذا الشعار، وإلى أي درجة نجح في ذلك؟
لا يتعارض مفهوم "بيت العنكبوت" مع حقيقة كون "إسرائيل" دولة قوية على المستويين العسكري والتكنولوجي، ولا مع كونها تملك مخالب تدميرية هائلة. وانما ينطبق هذا الوصف الدقيق على واقع المجتمع الصهيوني. لكن تصدع هذا المجتمع وانهزامه لن يتحقق إلا اذا واجه مقاومة ومجتمعًا تستند اليه، يتمتع بالصمود والتصميم والاستعداد للتضحية من أجل قضيته. ولعل السياق الذي أورد فيه السيد نصر الله هذا الموقف، يوحي بأنه تعمد التمييز بين تفوق قدراتها العسكرية وضعفها البنيوي والاجتماعي: "إسرائيل هذه التي تملك أسلحة نووية وأقوى سلاح جو في المنطقة، والله هي أوهن من بيت العنكبوت". وبعد 19 عامًا أتى أحد أبرز جنرالات "إسرائيل"، ورئيس "سلسلة مؤتمرات هرتسيليا"، اللواء عاموس غلعاد، ليكرر نفس المفهوم بتعابير مختلفة، وانطلاقًا من التمييز نفسه ""إسرائيل" منزل محميّ بجدران قوية من الخارج، بينما يأكله النمل الأبيض من الداخل".
على مستوى المضمون، يلاحظ أن مفهوم بيت العنكبوت، هو النقيض لمفهوم "الجدار الحديدي" الذي شكل العامل الأساسي في بلورة الاستراتيجية الإسرائيلية العامة. خلاصة هذا المفهوم الصهيوني، أن القادة الصهاينة أدركوا بشكل مبكر جداً، أنهم لن ينجحوا في فرض كيانهم من دون أن يزرعوا اليأس في نفوس الشعبين العربي والفلسطيني، ازاء امكانية الانتصار على المشروع الصهيوني. من هنا، كان لا بد من زرع ونشر مفهوم الجدار الحديدي، على أن يتحول إلى ما يشبه الحقيقة المسلمة. وفي حال نجاح هذا الترويج، وتحت عنوان الواقعية، يصبح التسليم بوجود "إسرائيل" نتيجة منطقية، تتناسب مع هذه المقدمة.
في المقابل، يقدم مفهوم "بيت العنكبوت" صورة مناقضة للجدار الحديدي، لدى الجمهور الإسرائيلي في نظرته إلى نفسه، وفي وعي الشعوب العربية. بمعنى أن مضمونه يعني أن هناك امكانية للانتصار على "إسرائيل"، رغم ما تتمتع به من تفوق تكنولوجي وعسكري، ومن دعم أميركي غير محدود.
مع ذلك، ليس كل شعار ينطوي على هذه المعاني، يؤدي إلى هذه التداعيات التي شهدناها في الواقع الإسرائيلي. ما ميز هذا الشعار - المفهوم، أنه لم يكن نتيجة اجتهاد نظري محض بين مجموعة من المنظرين، أو خلاصة بحث أكاديمي داخل غرف مغلقة، وانما كان تتويجًا لانتصار تاريخي استمد مصداقيته من الوقائع. بعبارة أخرى، الانجاز العملاني الذي يستند إلى هذا المفهوم، سبق الشعار على لسان سماحة السيد. لكن ما عزَّز مصداقيته ومفاعيله في الواقع الإسرائيلي أيضًا، أنه صدر على لسان قائد المقاومة. وهو ما يؤشر إلى أنه تعبير عن رؤية انطلقت منها المقاومة في انجازاتها الاستراتيجية والتاريخية التي حققتها، وتستند اليه بنظرة واقعية واسعة، في بلورة خططها ازاء المستقبل، وهو ما أدى إلى ارتفاع منسوب الخطر في وعي القادة الإسرائيليين. بعبارة موجزة، استطاع شعار "بيت العنكبوت" أن يوجه ضربة قاصمة لمفهوم "الجدار الحديدي"، في أكثر من محطة بدءًا من تحرير العام 2000، مرورًا بانتصار 2006، وصولًا إلى معادلات الردع الاقليمي التي فرضها حزب الله على الكيان الإسرائيلي.
هذه الخصوصية التي اتسم بها شعار ومفهوم "بيت العنكبوت"، حضرت بقوة لدى مؤسسة القرار في "تل ابيب"، ولدى الخبراء المتخصصين. وانعكس ذلك في الخطاب الإسرائيلي طوال السنوات التي تلت. ومن أبرز من حضر على لسانهم هذا المفهوم، بل أكثرهم، كان نتنياهو نفسه. حيث كرر الاشارة اليه في أعقاب عدوان الجرف الصامد في العام 2014، وتناول المفهوم نفسه في العام 2016 مرتين في اليوم نفسه، ثم كرر نتنياهو الاشارة اليه قبل أيام أيضًا، في كلمته بمناسبة حرب العام 2006.
سنكتفي في هذا السياق بما قاله نتنياهو أخيرًا، حيث استدل على كون المجتمع الإسرائيلي ليس "بيت العنكبوت"، بالقول: "عمليًا، حصل العكس تماماً: طوال أكثر من شهر نشرنا على حد سواء جنود في الجبهة ومواطنين في الجبهة - لأن الجبهة الداخلية أيضاً تحولت إلى جبهة، أظهرنا حصانة، أثبتنا قوة صمود... مقاتلونا أظهروا التصميم، التضحية والشجاعة والبطولة".
يعكس هذا الخطاب أن “إسرائيل” تحاول اعادة انتاج صورة مغايرة لنتائج حرب العام 2006. مع ذلك، عندما يحاولون القيام بهذه المهمة الفاشلة، يجدون أنفسهم مضطرين لتجاهل حقيقة أن “إسرائيل” فشلت في أهدافها الاستراتيجية من سحق حزب الله إلى انتاج شرق أوسط جديد... ولم ينجح نتنياهو في الارتقاء إلى رتبة المقاربة الموضوعية عندما تابع بالقول "في الوقت ذاته، كانت هناك إخفاقات، ليست قليلة-أيضاً لدى المستوى السياسي والمستوى العسكري ونحن نطبق العبر النابعة من هذه الإخفاقات، سواء في الجانب الإستراتيجي أو العملاني".
سنكتفي لدحض محاولة نتنياهو الفاشلة، بالتذكير ببعض المحطات التي تنطلق بنفسها عن نفسها. هل امتناع الجيش والمستوى السياسي عن شن اجتياح بري واسع خلال حرب العام 2006، كما أشار تقرير فينوغراد، وتنفيذه بشكل جزئي في نهاية الحرب، دليل على التصميم والتضحية الذي أظهره الجنود. أم نتيجة الرعب الذي كان مسكونا في نفوسهم، ومما ينتظرهم لو بادروا إلى ذلك. وهل مطالبة الجيش بوقف العملية العسكرية قبل انتهاء المدة الزمنية التي طلبها، عندما تعرض لمجزرة دبابات الميركافاه الشهيرة. وأين البطولة، التي أظهرها جنود جيش العدو في معركة مارون الراس، أم في بنت جبيل وعيتا الشعب.
وأين صمود الجبهة الداخلية، هل يكمن في نجاح معادلة الردع التي فرضها حزب الله، تل ابيب مقابل بيروت. ولماذا امتنع العدو عن استهداف بيروت، أليس لأنه أدرك بأن حزب الله يملك الشجاعة والارادة والقدرة على تنفيذ التهديد الذي أطلقه السيد نصر الله.
مشكلة "إسرائيل"، أنها أتت متأخرة في محاولة تعديل صورة الحرب، وما تكرار نتنياهو الحديث عن مفهوم بيت العنكبوت، في المحطات التي تلت وطوال السنوات الماضية، إلا اثبات وكشف عن الأثر الكبير الذي تركه هذا المفهوم في الواقع الإسرائيلي، وإن أتت في مورد النفي، وهو ما يؤشر بقوة إلى أنه سيواكب "إسرائيل" في مستقبلها، وسيبقى هاجساً دائماً في وعي وخطاب كل قادتها.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024