آراء وتحليلات
ايران ـ أميركا والمواجهة في مياه الخليج
سركيس أبوزيد
لا حرب ولا مفاوضات، ھذا ھو العنوان العريض للمرحلة. فلو كانت واشنطن تريد الحرب لكانت ردت على إسقاط الطائرة الأميركية فوق مضيق ھرمز. ولو كانت إيران تريد المفاوضات لكانت تعاطت بمرونة وانفتاح مع الوساطة اليابانية. ولكن، ھذا الإعتقاد قابل للتغيّر تبعا للتطورات التي تظھر أن ھناك دينامية ذاتية في مسار الأحداث والتطورات، وأن الطرفين لا يملكان السيطرة التامة على "مجريات اللعبة": فإيران التي تنتھج استراتيجية الإنتظار والصبر الاستراتيجي حتى الإنتخابات الأميركية، قد تنتقل الى خيار المفاوضات أو التجاوب مع الوساطات الدولية للتھدئة، وبالمقابل فإن الرئيس ترامب الذي ينتھج استراتيجية العقوبات والحرب الاقتصادية، ربما يصل الى قناعة بأن الأمر يتطلب مزيجا من ضغوط اقتصادية و سياسية وعسكرية.
فالرئيس ترامب بعد سقوط الطائرة الأميركية وجد نفسه "في ورطة" لأنه لا يستطيع السكوت وإعطاء مؤشر ضعف، ولا يريد الحرب العسكرية، وما زاد في صعوبة موقفه الإنقسام داخل المؤسسة الأميركية بين مؤيدين لرد فوري على إيران، يتمنى بعضھم أن يفضي إلى مواجھة عسكرية، ومعارضين له بسبب إحتمال التدحرج نحو مثل ھذه المواجھة. ولكن المؤسسة العسكرية ما زالت تعارض حربا كبرى مع إيران، لمعرفتھا أكلافھا المرتفعة أولا، ولتناقضھا مع ما تعتقده أولويات حيوية للولايات المتحدة، وھي التركيز على التنافس الاستراتيجي مع الصين وروسيا، وتعبئة القدرات والموارد المتوفرة لھذه الغاية أساسا. فالإنطباع السائد حاليا في واشنطن أنه إذا التزم الطرفان "الھدوء والحكمة" لن يحدث شيء ويمكنھما إيجاد طريقة تفاوض للخروج من ھذه الورطة.
سجل مؤخرا تصعيد أميركي ـ إيراني جديد في الخليج، وتھديدات متبادلة في شأن مضيق ھرمز الذي يمر عبره ثلث تجارة النفط البحرية، إيران ھددت بأنھا ستقفل مضيق ھرمز إذا مُنعت من إستخدامه.
و
وتميّزت ردود الفعل الأميركية منذ بداية الأزمة بالتناقض. فإعلان إرسال حاملة الطائرات صاحبته تحذيرات وتھديدات من مستشار الأمن القومي جون بولتون بأن واشنطن مستعدة لاستخدام القوة الصارمة إذا ھددت طھران مصالح أميركا أو مصالح حلفائھا. في المقابل، عكس المسؤولون والعسكريون في وزارة الدفاع مواقف أكثر إعتدالا. ومع أن الرئيس ترامب واصل إنتقاداته لإيران، إلا أنه تفادى تھديدھا عسكريا أو مباشرة.
ويقول مسؤولون أميركيون إن اللجوء الى القوة العسكرية يمكن أن يكون ضروريا، لذلك فإن التوجه الأمثل أمام البيت الأبيض الآن ھو:
ـ التركيز في استخدام القوة العسكرية على حماية الملاحة الدولية عبر مضيق ھرمز من طريق تحالف واسع يشمل دول حلف الأطلسي ودول الخليج ودول آسيوية تعتمد على نفط الخليج.
ـ السعي الى تدويل النزاع مع إيران. ويقضي ذلك بتحويل التوتر مع إيران من المسار العسكري الى المسار الدبلوماسي، وتجاوز مرحلة المواجھة المباشرة "أميركا ضد إيران" الى سيناريو "العالم ضد إيران".
ولكن واشنطن في عملية تدويل قضية إيران تواجه تحفظات دولية أولھا من روسيا، وفي عملية حماية مضيق ھرمز تواجه التحفظ الأوروبي من المشاركة في أي مھمة عسكرية في الخليج.
وعقب إجتماع فيينا مؤخراً بين ممثلي الدول الأطراف في الإتفاق النووي، أجمعت التصريحات الإيرانية على أن ما قدمه الأوروبيون ليس كافيا لجعل إيران تتراجع عن خطواتھا وتمدد مھلة الـ 60 يوما، طالما أن لا ضمانات بأن يشمل التبادل التجاري النفط، أو بفتح خط إئتمان مالي يجعل تجارة طھران في أوروبا قابلة للحياة. كما اتهمت طھران الأوروبيين بعدم تلبية مطالبھا عقب انسحاب واشنطن من الإتفاق النووي، واتباع سلوك متذبذب، واسترضاء الولايات المتحدة.
على ھذا الأساس، غيّرت إيران مع بداية أيار/ مايو الماضي إستراتيجيتھا لجس نبض الأوروبيين إن كانوا شركاء أو منافسين، وأعلنت أنھا ستعلّق قسما من تعھداتھا في الإتفاق النووي في حال لم تتوصل الدول الأخرى الموقعة على الإتفاق إلى حل خلال 60 يوما لتخفيف آثار العقوبات الأميركية على القطاعين النفطي والمصرفي الإيرانيين.
في المقابل، رفض الأوروبيون ھذه المھلة وطالبوا بتمديدھا، وأكدوا أن خروج إيران من الاتفاق يعني خسارتھا للدعم الأوروبي ولتمسك الاتحاد به، والتحاق أوروبا بالركب الأميركي في العودة إلى فرض عقوبات اقتصادية وتجارية ومالية على طھران، كما كانت الحال قبل التوقيع عليه. فلم يعد الإتفاق النووي وكيفية إنقاذه أولوية عند الأوروبيين، فقد تقدم عليه "أمن الخليج" وكيفية تأمين سلامة الملاحة البحرية وحماية ناقلات النفط، كما لم تعد العقوبات الأميركية وكيفية مواجھتھا ھي الشغل الشاغل للإيرانيين، فقد تقدمت عليھا الخطط والإجراءات الأميركية والأوروبية في مياه الخليج وكيفية احتوائھا وإفشالھا.
ثمة إشتباك دبلوماسي وصراع دولي بشأن "أمن الخليج" وسباق محموم بين مشاريع ومبادرات أبرزھا حاليا:
ـ المشروع البريطاني لتشكيل قوة أوروبية لحماية أمن الملاحة ومراقبة الأمن البحري في الخليج.
ـ الخطة الأميركية لإقامة تحالف دولي بھدف زيادة تبادل المعلومات الإستخباراتية وتعزيز نظام المراقبة وردع مزيد من الھجمات ضد الناقلات في مضيق ھرمز ومواجھة أي ظروف طارئة.
ـ المبادرة الروسية التي كشف عنھا نائب وزير الخارجية ومسؤول الشرق الأوسط ميخائيل بوغدانوف في إجتماع مغلق نظمته وزارة الخارجية الروسية في موسكو وجمع سفراء ودبلوماسيين عرب وأوروبيين، ومن مجموعة "بريكس"، وھذه المبادرة ھي عبارة عن أفكار تتناول ضمان الأمن في منطقة الخليج ونزع التوتر القائم حاليا، ووضع أسس لبلورة نظام إقليمي مستقر. وتتضمن مجموعة إجراءات من شأنھا تأمين الملاحة في الخليج وبناء الثقة بين دول المنطقة، وبناء ھيكل نظام أمني خليجي، والحفاظ على الإستقرار الإقليمي.
من جهتها تحذر طھران من أن مقترح بريطانيا تشكيل قوة أوروبية في مضيق ھرمز قد يجر ما ليس في الحسبان، مبدية إستعداد بلادھا لتشكيل تحالف سياسي وأمني مع جيرانھا لضمان الإستقرار والأمن في المنطقة.
في النهاية، المفاوض الإيراني البارع بشھادة الأميركيين أنفسھم، يراھن على ضعف ترامب في سنته الانتخابية. فھو غير قادر حتى على الإقدام على قرار مجنون بالذھاب الى الحرب، وھو الذي بنى خطابه السياسي على رفض إنزلاق بلاده في حروب الشرق الأوسط. فالإعتقاد السائد في واشنطن أنه من السابق لأوانه اللجوء الى "الحل العسكري المحض"، فلا تزال لدى الولايات المتحدة أوراق تلعب بھا وينبغي الضغط على "المكابح" قبل أن يتطور التصعيد الراھن الى حالة من الصراع تخرج عن نطاق السيطرة.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024