خاص العهد
هكذا نُحوّل الاقتصاد من ريعي الى منتج
فاطمة سلامة
في غمرة الحديث عن الوضع الاقتصادي المُنهك في لبنان، والأزمات المتتالية التي لم تدع مجالاً للاقتصاد حتى يلتقط أنفاسه، نسمع الكثير من المُطالبات بضرورة تحويل الاقتصاد من ريعي الى منتج. العبارة قد تمر مرور الكرام لدى البعض ممّن لا يعير اهتماماً للسياسات الاقتصادية. التدقيق والبحث في مغزاها يُبيّن أصل العلّة التي نعيشها اليوم جراء الاقتصاد الريعي الذي يُحكم الطوق على عنق الاقتصاد. والغريب أكثر أنّ الريع لم يأت الى لبنان بشكل طبيعي، ففي المفهوم الاقتصادي يُعرّف الريع بأنّه نمط اقتصادي تعتمد فيه الدولة على مصدر واحد كدخل لها، غالباً ما يكون طبيعياً كالنفط والغاز. أما في لبنان فمصدر الريع يكمن في السياسات المالية والنقدية الخاطئة التي اتبعت على مدى عقود والتي تحوّل بموجبها لبنان الى بلد مرتهن للخارج نتيجة الديون وتراكم خدمات الدين، فضلاً عن ضعف الاستثمارات في القطاعات الانتاجية وغيرها من العوامل. ويأتي هنا السؤال الأساس: كيف السبيل الى تحويل لبنان من اقتصاد ريعي الى منتج؟.
لا شك أنّ المسألة لا ولن تتم "برمشة عين" كما يُقال. فالريع بات متجذّراً في أصل الاقتصاد اللبناني، خصوصاً أنّ لبنان وعلى مدى عقود لم يُقدّم خطة واضحة تسير عليها سياساته الاقتصادية. القضية بطبيعة الحال ليست صعبة أو مستحيلة اذا ما تضافرت الجهود في العديد من المجالات، وبالتأكيد ستحمل الكثير من الانعكاسات الايجابية على الاقتصاد اللبناني المتعب والمثقل بالكثير من الأزمات. رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق الدكتور عبد الحليم فضل الله يعرض وجهة نظر حزب الله في هذا الموضوع، فيشير الى أنّ أولى الخطوات على درب التحول للاقتصاد المنتج تكمن في الاهتمام بمجموعة من القطاعات الأساسية التي تنتج سلعاً قابلة للتبادل في الداخل والخارج وخدمات أساسية مثل الصحة والتعليم والسياحة، وحتى الخدمات المالية. ويُشدّد فضل الله على أنّ الاقتصاد يكون منتجاً عندما تكون هذه المنتجات قادرة على المنافسة محلياً وخارجياً.
ويؤكّد فضل الله أنّ مشكلة الاقتصاد اللبناني أنّه تحول الى اقتصاد ريعي مع أنّه لا يملك مصادر للريوع حتى الآن من نفط ومواد طبيعية، بل تحوّل بسبب السياسات التي جعلت السلع الأساسية والمنتجات والخدمات غير قادرة على المنافسة، بمعنى لا نستطيع أن نبيع منتجاتنا لا في الخارج ولا في الداخل، فضلاً عن أن خدماتنا الأساسية والمنافِسة تاريخياً مثل الصحة والتعليم وحتى السياحة لم تعد منافِسة وقادرة على تصدير منتجاتها الى الخارج بسبب ارتفاع التكاليف.
ويُدرج فضل الله ألف باء تحويل الاقتصاد الى منتج، بالإشارة الى ضرورة استعادة التنافسية وقدرة الاقتصاد اللبناني على المنافسة بتصدير السلع أو بيعها في الداخل. هذا الأمر يشكّل أولى الخطوات، ولكن بشروط أبرزها:
ـ تحديد القطاعات الأساسية التي يمكن للبنان أن ينافس فيها، وهذه عملية متوفرة ومتاحة عبر العودة الى السجل التاريخي للانتاج والذي يُبيّن أنّ لبنان يمتلك منتجات لديها القدرة على المنافسة. كما يمكن العودة للموارد البشرية التي يمتلكها لبنان، للخبرة الزراعية، للتجربة الصناعية، خصوصاً أن لبنان لديه قاعدة جيدة من المنتجات الصناعية التي يمكن تصديرها الى الخارج.
المطلوب اذاً ـ وفق فضل الله ـ تحديد القطاعات التي يستطيع لبنان أن ينافس فيها وثانياً تحديد القطاعات الحيوية التي لا يمكن للبنان إلا أن ينتجها لأسباب لها علاقة بأمنه الغذائي وأمنه الوطني وأمنه في تقديم السلع الحيوية كالكهرباء، الاتصالات، المياه وغيرها. بعد الانتهاء من مرحلة التحديد علينا أن نقدم لتلك السلع الدعم والحماية عبر سياسات داخلية وأخرى خارجية.
في السياسات الداخلية، لا بأس ـ بحسب فضل الله ـ في فرض بعض الرسوم الجمركية على السلع التي تنافس الانتاج المحلي، لا بأس بوضع سياسات لدعم الصادرات لمنتجات قادرة على المنافسة في الخارج وتقديم الدعم والحماية لها خصوصاً في المراحل الأولى لإطلاق انتاجية الاقتصاد اللبناني عبر المنتجات والسلع التي نرى أنها أولوية.
كما لا بد من خفض التكاليف الداخلية، فلا نستطيع أن نجعل منتجاتنا منافِسة اذا كانت تكاليفنا والمواد الأساسية عالية. من وجهة نظر رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق فإنّ خفض التكاليف يحتاج أيضاً الى سياسات منافسة، سياسات ضد الاحتكارات، وسياسات مالية ونقدية داعمة للاقتصاد. إذ من غير الممكن أن يكون لدينا اقتصاد منافس في ظل فوائد عالية تصل حد 20 و25 بالمئة. ومن غير الممكن أن يكون لدينا اقتصاد منافس والاحتكارات تسيطر في السوق. لا يمكن أن يكون لدينا اقتصاد منافس وسياساتنا المالية لا تعطي الاهتمام بالقطاعات الانتاجية، مثال على ذلك، الوزارات الأساسية المرتبطة بالانتاج من صناعة وزراعة وغيرها لا تساوي حصتها من الموازنة شيئاً، بل جزءاً بسيطاً جداً من الهدر الذي يحصل في أجهزة الدولة والمشاريع العامة.
في السياسات الخارجية، ولكي يكون لدينا اقتصاد منافس ينبغي للحكومة أن تراجع السياسات التجارية وتحديداً الاتفاقيات التجارية. برأي فضل الله ليس المقصود تعديل الاتفاقيات بالضرورة، بل الاستفادة من بعض البنود بهدف منع الاغراق، وحل مشاكل العجز الحادة في ميزان المدفوعات، وبهدف تمكين منتجاتنا الأساسية من الحفاظ على أسواقنا الداخلية على الأقل ومكافحة المنافسة غير المشروعة للمنتجات الداخلية والسلع المستوردة من الخارج، وهذا يتطلّب أن يكون لدينا سياسة حكومية واضحة من الاتفاقيات التجارية. يُعطي فضل الله مثالاً على ذلك تجربة لبنان مع تطبيق الاتفاقيات التجارية وخصوصاً تلك المتعلقة بالشراكة مع الاتحاد الاوروبي والتي لم تكن أبداً لمصلحة لبنان بل زادت بموجبها مستورداتنا من منطقة الاتحاد الاوروبي ولم تزد صادراتنا بل تراجعت في السنوات الأخيرة.
ماكينزي..إطار للنقاش
أما فيما يتعلّق بخطة "ماكينزي"، فيعتبر فضل الله أنها تشكّل إطاراً للنقاش، لكننا لا نعتبرها خطة ناجزة ونهائية بكافة مندرجاتها. هي إطار للنقاش ينبغي أن تناقش بالتفصيل. وفق قناعات فضل الله فإنّ بعض المبادىء التي انطلقت منها مقبولة خصوصاً عندما حدّدت القطاعات الأساسية من صناعة، زراعة، اقتصاد المعرفة والخدمات المالية، وأضيف اليها موضوع المغتربين. نحن نعتبر القطاعات الأولى ذات أولوية وبالنسبة للمغتربين ينبغي الاستفادة منهم والعمل على استعادتهم الى وطنهم لا سيما الطاقات الشبابية والرأسمال البشري فيها.
يؤكّد فضل الله أنّ بعض السياسات موافق عليها في خطة "ماكينزي" وبعض السياسات بحاجة الى المزيد من النقاش خصوصاً ما يتعلق بدور القطاعين العام والخاص. كما أنّ بعض السياسات القطاعية نتفق على معظم الأهداف الوادرة حيالها في "ماكينزي"، لكنّ السياسات والاجراءات والمشاريع التفصيلية بحاجة الى المزيد من البحث. بالعموم هي إطار للنقاش لكن بالتفصيل هي بحاجة الى نقاش دقيق، يختم فضل الله.