خاص العهد
ملحمة حرب نيسان المظفرة: كيف قيّم السيد ذو الفقار نتائج الحرب واستراتيجيات العدو والمقاومة؟ 1/2
محمد أ. الحسيني
يقدم موقع "العهد" الاخباري رواية خاصة تتضمن بعضًا من دور القائد الجهادي الكبير في المقاومة السيد ذو الفقار "مصطفى بدر الدين" في مواجهة العدو الاسرائيلي عام 96 فيما عرف لاحقا بحرب نيسان والتي أسماها العدو "عناقيد الغضب" واستحالت حصرماً.
ذات يوم ربيعي، وفي غرفة صغيرة بقيت فيها مدفأة المازوت (الصوبا) تتوسّط المكان، وعلى الحائط لوح وخرائط ورقية، افترش مجموعة من قادة المحاور في المقاومة الإسلامية الأرض، يتكئ بعضهم على بعض، ومن لم يجد مكاناً للجلوس وقف عند باب الغرفة متابعاً. العيون شاخصة والأسماع مأخوذة إلى قائد شاب يشرح مجريات المواجهة وخلاصات الإنجاز: إنه السيد ذو الفقار. يجلس خلف طاولة صغيرة وأمامه مجموعة كرّاسات مطبوعة تحتضن تفاصيل حكاية انتصار نيسان.. كان كمن يتلو فصولاً من روائع الأدب.. فرحاً تارة، متأثراً تارة أخرى، وفي كل الأحيان يوزّع نظراته فخوراً، ويرسم بإيماءاته لوحة عزّ، وبين التفاتة من هنا وتعقيب من هناك يرسل تحيّاته إلى ثلّة من رجال الله كتبوا ملحمة الانتصار.
شرع السيد ذو الفقار باستعراض مجريات الحرب الميدانية على مدى 16 يوماً. كان واضحاً في تأكيده أن حزب الله كان يتوقّع حصول المواجهة. هي حرب محسومة تمخّضت عن مؤتمر شرم الشيخ، الذي جعل عنوانه الرئيسي ضرب الانتفاضة في فلسطين والمقاومة في لبنان. حدّد السيد عناوين اللقاء كالتالي:
1. لماذا شرع العدو بالحرب؟
2. تكتيك المقاومة في رماية الصواريخ.
3. الإمداد.
4. الحرب النفسية.
5. نتائج الحرب العسكرية والسياسية.
كان في ظن رئيس حكومة العدو شيمون بيريز أنه خلال أيام قليلة سيحسم الأمر ويضمن إعادة تعويمه في الداخل الإسرائيلي ليعاد انتخابه رئيساً للحكومة مرة أخرى، وينجح في تحقيق أهداف عدوان "عناقيد الغضب"، والتي يمكن تلخيصها بالآتي:
أولاً: ضرب بنية حزب الله التنظيمية، وتفكيك مؤسساته، والقضاء على الرموز الأساسية فيه.
ثانياً: تدمير البنية العسكرية للمقاومة، وضرب قواعدها وتصفية الصف الأول بالحد الأدنى من قادتها العسكريين، وتدمير مراكزها اللوجستية ومنصّات صواريخ الكاتيوشا، أو إبعادها في أسوأ الأحوال لأكثر من 20 كلم عن الحدود اللبنانية - الفلسطينية.
ثالثاً: إسقاط تفاهم تموز الذي تم التوصّل إليه بعد حرب الأيام السبعة أو عملية "تصفية الحساب" عام 1993، وفرض معادلة كريات شمونة - بيروت.
رابعاً: فصل المسارين اللبناني والسوري، لعزل لبنان والاستفراد به ودفعه لتوقيع اتفاق سياسي - أمني مع العدو على غرار اتفاق 17 أيار.
خامساً: خلق شرخ بين المقاومة والمجتمع اللبناني حكومة وشعباً، وشرذمة النسيج الوطني اللبناني عبر إحياء النعرات المذهبية والطائفية، لصالح تقوية دور الأطراف الداخلية المرتبطة بـ "إسرائيل".
سادساً: ضرب المقوّمات الاقتصادية والبشرية في لبنان، وإفراغ قرى الجنوب من سكانه لخلق أزمة إنسانية داخلية خلال الحرب تؤدي إلى تأليب الرأي العام على حزب الله والمقاومة.
درس الضربة الأولى
وضع العدو أجندة عدوانه وشرع بالحرب في 11 نيسان، ونفذت طائراته الحربية 34 غارة في اليوم الأول، و"استفدنا جداً من الضربة الأولى"، قالها السيد وهو يستوي على كرسيّه، "وأخذنا قراراً بأن أي ضابط أو مسؤول اختصاص أو مسؤول قطاع ومنطقة..، يجب أن يكون لديه مقر احتياطي جاهز، فالعدو عندما نفّذ ضربته الأولى كان يعلم أن مقرّ القيادة هو نفسه مقرّ الاتصالات السلكية واللاسلكية، وبالتالي قمنا بتبديل كل المراكز العسكرية والأمنية وأصبحت كلها مراكز سريّة، وتركنا مركزين فقط قام العدو باستهدافهما لاحقاً، ولكن لم يستفد في هذه الضربات من تحقيق أي هدف".
ما العبرة من هذا الأمر؟ وما النتيجة من هذا الإجراء؟ الجواب: "أننا لم نقع في حالة ضياع واضطراب، فكل شيء كان مجهّزاً ومنقولاً إلى مكان آخر، وخلال نصف ساعة فقط كانت الخطة البديلة جاهزة، ودائرة الاتصالات حاضرة، من خلال مركز اتصالات سرّي متّصل بكل المراكز الحيوية، وبكل الجهات والمراكز والمسؤولين الأساسيين في القيادة وفي الميدان".
صعّد العدو عدوانه وبدأ مسلسل ارتكاب المجازر، فكانت مجزرة سحمر، وبدأ ردّ المقاومة الإسلامية بقصف المستعمرات، وحصلت مجزرة إسعاف المنصوري في ظل غارات مكثّفة سقط بنتيجتها عشرات الشهداء والجرحى من المدنيين، وهنا يصرّح مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية أوري سافير بالقول إن "الغارات على لبنان تحظى بتأييد أمريكي وغربي، وهي لا تهدف فقط إلى الدفاع عن أمن إسرائيل وإنما لمنع لبنان من مساندة المقاومة".. كان ذلك إيذاناً برفع مستوى سقف الحرب.
لم تقف المقاومة الإسلامية في موقع المتلقّي ومكتوفة الأيدي، بل اندفعت في تنفيذ الهجمات على المواقع الإسرائيلية واللحدية وقصف الصواريخ على المستعمرات، ودامت المواجهة سجالاً، ودخلت الحرب النفسية على الخط، فيما اتخذّ العدو أقصى درجات الحيطة والحذر وأعلى مستويات الجهوزية، مما أعاق المجاهدين عن تنفيذ العمليات في العمق، وفي اليوم الرابع كانت العاصمة اللبنانية تتعرّض للعدوان للمرة الثالثة، والهدف إرساء معادلة بيروت - كريات شمونة.. معادلة أسقطتها المقاومة الإسلامية في اليوم السادس، وقصفت 19 مستوطنة، وشنّ مجاهدوها هجوماً واسعاً شمل مواقع العدو في سجد وبئر كلاب والطهرة والبرج وحداثا وبيت ياحون وعلي الطاهر واستهدف القصف المدفعي موقع السويداء.. وفي هذا اليوم أيضاً يسقط الشهيد الأول للمقاومة.
معادلة الردع الصاروخي
كيف كان الأداء العسكري في الجبهة؟ سعى العدو بكل ما أوتي من شراسة لضرب كل منصات إطلاق الكاتيوشا، فكانت القذائف والصواريخ الإسرائيلية تنهمر على موقع الإطلاق بعد دقائق قليلة جداً من انطلاق الصاورخ الأول منها، و"لكن المجاهدين كانوا في كل مرة يعاودون القصف، معتمدين على تكتيك التنقّل وعدم الثبات في موقع واحد، ولذلك لم يسقط لنا إلا شهيد واحد وكان ذلك في اليوم السادس على الرغم من مئات الغارات وآلاف القذائف".
هنا يتنفّس السيد ذو الفقار بعمق ويصمت قليلاً وكأنه يستحضر المشهد، وينقّل ناظريه بين الأخوة ويقول: "تخيّلوا أن بعض الأخوة كانوا يتعرّضون لأكثر من عشر غارات متتالية، وتنهال عليهم الصواريخ من زنة ألف باوند، وهم مستمرون بالرمي بلا تعب.. هناك من انهارت عليه جدران مغارة وأغلق بابها، ومنهم من دُفن تحت ركام مبنى قصفته الطائرات الحربية، وفجأة يعثر على مطرقة كبيرة بجانبه فيستخدمها لفتح كوّة في الركام والجدران التي تغطيه ليخرج ناجياً بحياته.. من أين جاءت هذه المطرقة؟ أليس هذا لطف إلهي!؟".
يصمت السيد ذو الفقار مرة أخرى ويستأنف الحديث بحزم: "لم يكن هناك مكان آمن في مناطق الجنوب خلال الحرب، ولا سيما في مناطق المواجهة، وكان تكتيك المقاومة في رمي الصواريخ عنوانه الردع.. لم تعد المسألة مجرد إطلاق صواريخ، بل تحوّلت إلى معادلة توازن رعب حقيقي فرضها الردع الصاروخي الذي اعتمدته المقاومة الإسلامية".
بدأ العدو في اليوم السابع بتنفيذ المرحلة الثالثة من تطبيق أهدافه بقصف مروحي وبري، فيما تمطر المقاومة 14 مستعمرة بالصواريخ، وتهاجم موقعي برعشيت والدبشة وتجمّعات للعدو شرق مرجعيون. وهنا يتحدث السيّد عن جانب من جوانب التسديد الإلهي، ففي اليوم الثامن يقول: "يكتشف الإخوة تجمعاً لقوة إسرائيلية كبيرة في ياطر، ويحدّدون مكانها بدقة ويفتحون عليهم النيران وتسقط القذائف وسط التجمع بدقّة..". وفي هذا اليوم يرتكب العدو مجزرتين، الأولى في قانا حيث يستشهد 118 مدنياً لجؤوا إلى مركز للقوة الدولية للاختباء من العدوان، والثانية في النبطية، ويقطع طريق بيروت – الجنوب ليمنع طرق الإمداد، ويسقط 18 شهيداً للمقاومة.
"طعن العدو نفسه في القلب بارتكابه مجرة قانا" هكذا يرى السيّد ذو الفقار في هذا المنعطف الميداني، فأمنون شاحاك رئيس هيئة أركان جيش الاحتلال يعتذر عن ارتكاب المجزرة، فيما يبدأ التناقض بين المؤسستين العسكرية والسياسية بشأن الحرب ونتائجها. أما في الميدان فتحبط المقاومة عملية تسلّل حاول العدو تنفيذها على محور البقاع الغربي، وهي من ضمن محاولات إسرائيلية "ليست بهدف احتلال أو السيطرة على محور، بل لتحقيق نفوذ ميداني بهدف تأمين السيطرة بالرؤية المباشرة على حركة مجاهدي المقاومة ومواقع إطلاق الصواريخ"، بحسب ما يوضح السيّد ذو الفقار.
بشائر الانكفاء والهزيمة
في اليوم العاشر يبدأ العدو بالخطوة الأخيرة في المرحلة الثالثة، ويستهدف الطرق الأساسية بين القرى، ويعمد إلى قطع ما يقارب 60 طريقاً بين 117 قرية فضلاً عن قنص السيارات على جميع الطرقات، وفي المقابل تقصف المقاومة 16 مستعمرة وتهاجم مواقع سجد وصيدون والبرج وتدمر مربض مدفعية عيار 155 ملم.. وفي اليوم الحادي عشر تبدأ خطوات التراجع.. أوري أور نائب وزير حرب العدو يقول: "نعرف أن لدى حزب الله صواريخ كثيرة، ولكن لم يكن أيّ منا يعتقد أنه سيواصل القصف بهذه الوتيرة". وتتهم قيادة جيش الاحتلال جهاز المخابرات العسكرية بعدم الدقة في تحديد قدرات حزب الله الصاروخية، مما انعكس فشلاً على العملية العسكرية".
حتى اليوم الثاني عشر، لم يستطع العدو تحقيق أي من أهدافه مع انسداد الأفق أمام أي حلحلة سياسية، وأقرّ العدو من الناحية العسكرية بأن الأمور تتّجه نحو الأسوأ، وتميل الكفّة لمصلحة المقاومة التي تندفع قدماً باتجاه تفعيل الهجمات على المواقع وتفجّر قنوات اتصال للعدو بين المستعمرات والشريط المحتل، وتكمن لقوة إسرائيلية على طريق بيت ياحون - برعشيت، وتهاجم موقع علي الطاهر ودبين ومرابض العدو في الشريفة.. هنا يبدأ العدو بخطواته في التخفيف التدريجي، ويصرّح يوسي بيلين المكلّف بعملية التسوية: "ليس للعملية أهداف سوى فكّ قيود تفاهم تموز 1993"، وهو بذلك هدم كل ما أعلنه العدو سابقاً من أن الهدف هو القضاء على حزب الله وتفكيك منظومته العسكرية والميدانية.
تكتيك الميدان الحاسم
أجادت المقاومة الإسلامية استخدام معادلة قصف المستعمرات بهدف فرض معادلة توازن الرعب "فهو قرارٌ لم يكن طوال أيام الحرب عند القيادات التكتيكية الميدانية، بل هو أمر بيد القائد العام للمقاومة سماحة السيد حسن نصر الله"، هكذا يخلص السيّد ذو الفقار في تقييم التكتيك الخاص الذي اعتمدته المقاومة في رماية الصواريخ، "فلم تكن قواعد الإطلاق ثابتة في خط مرسوم وواضح، بحيث لم يستطع العدو التقاط منهج توزّع منصات الإطلاق، وهذا ما استنزف قدرات سلاح الجو وقيادته، الذي اضطر دوماً إلى إجراء تحليق مستمر على امتداد المناطق الجنوبية، وحال دون قدرة العدو على أن يتنبأ أو يرسم خطاً بيانياً جغرافياً لتوزّع المنصات على مساحة مناطق المواجهة".
ويؤكد السيّد ذو الفقار أن "العدو لم يكن يجرؤ على توسيع دائرة العدوان، فهو لم يلمس طوال أيام الحرب اتجاهاً لدى المقاومة للإنكفاء، لا بل كانت المقاومة تصعّد زخم عملياتها وقصفها وهجماتها في كل مرّة يعمد العدو فيها إلى تصعيد عدوانه، ولم تفلح كل محاولاته في وقف إطلاق الصواريخ على المستوطنات ولا في الإطباق على طرق إمداد المقاومين، كما لم يتجرأ على فتح خطوط المواجهة الميدانية على الأرض، ولعبت تشكيلات التعبئة العامة دوراً مهماً في دعم العمليات الميدانية للمقاومة باعتبارها الجيش الأكبر في حال الحرب".
الضربة الأخيرة
توقّف العدوان الإسرائيلي عند الساعة الرابعة من فجر اليوم السادس عشر بصواريخ المقاومة الإسلامية "التي أبت إلاّ أن تكون يدها هي العليا، ليستفيق المستوطنون على صلية صواريخ أخيرة لتذكّرهم دوماً بكابوس الرعب وتوازن العرب الذي كرّسه حزب الله".. هكذا كانت العبرة التي أكّدها السيّد ذو الفقار بطمأنينة وفخر. ولكن المفاجأة لم تأتِ فقط في حسم الحرب لمصلحة لبنان والمقاومة وقوى الممانعة، بل في الأرقام والنتائج التي وفق إحصاءات المقاومة. فقد شن العدّو على مدى 16 يوماً 833 غارة جوية، و881 عملية قصف بري، و65 عملية قصف بحري، وجاء رد المقاومة بقصف 47 مستعمرة، وإطلاق 696 صلية صواريخ (كل صلية تتراوح بين 3 و12 صاروخ) أي بما مجموعه بين 1000 و1100 صاروخ، و54 عملية عسكرية بين هجوم وصدّ تسلّل أو كمين أو قصف مدفعي، وسقط 146 شهيداً و300 جريحاً في صفوف المدنيين، و4 شهداء و8 جرحى للجيش اللبناني، وشهيدان و5 جرحى للجيش السوري، ولم يسقط للمقاومة الإسلامية سوى 14 شهيد، من بينهم 8 شهداء فقط في الأداء العسكري فيما استشهد الباقي في الغارات الحربية.
ما هي التكتيكات الأخرى التي اتبعتها المقاومة الإسلامية في حرب نيسان؟ وما هي النتائج التي أسفرت عنها المواجهة؟ وماذا أسّس انتصار نيسان؟ هذا ما نستعرضه في الجزء الثاني من الرواية.
ملحمة حرب نيسان المظفر: هكذا أدار السيد ذو الفقار المعركة (2-2)