خاص العهد
العقوبات على باسيل: محاسبة للشعب اللبناني على خياراته
فاطمة سلامة
لا تخرج العقوبات الأميركية التي فرضت حديثاً على رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل عن ديدن واشنطن وتاريخها. عندما نتحدّث عن سياسة واشنطن في المنطقة فإننا نتحدّث عن الاستبداد والتسلط والهيمنة والكثير من المفردات المرادفة. تنصّب الولايات المتحدة الأميركية نفسها حكماً وقاضياً على العالم، بينما هي أم الإرهاب. الأخير يُمارَس بأشكال متعدّدة ومختلفة تنتقل فيها واشنطن من إرهاب الى آخر. إرهاب عسكري، يليه اقتصادي، ثم سياسي وفكري وغير ذلك من الأشكال التي لا تقف عند مكان وزمان محدّدين.
في لبنان، تعدّدت أشكال الإرهاب الأميركي والهدف واحد. لا تريد أميركا لهذا البلد الاستقرار بل الفوضى. ولهذه الأسباب تتنقّل واشنطن من إرهاب الى آخر. مارست إرهاباً عسكرياً حين زوّدت "إسرائيل" بالأسلحة ودعمتها في مجازرها بلبنان، ومارست إرهاباً اقتصادياً حين حاصرت الشعب اللبناني بأساليب شتى وشنّت عدواناً اقتصادياً وصلت فيه الأوضاع المالية والنقدية الى الدرك الأسفل، ومارست إرهاباً فكرياً حين حرّضت اللبنانيين من سياسيين ومواطنين على المقاومة ضاربةً عرض الحائط بالقاعدة الشعبية الكبرى لها وكأنها تعاقب الشعب اللبناني على خياراته السياسية. في هذه النقطة يكمن المشروع الأميركي الأوسع والمتمثّل بالنيل من رأس المقاومة حماية لما يُسمى بالأمن القومي "الإسرائيلي".
اليوم تمارس واشنطن إرهاباً سياسياً ـ وهو إرهاب ليس بجديد ـ تستهدف فيه رئيس أحد أكبر الأحزاب السياسية في لبنان عبر سلاح العقوبات. الأهداف متعددة والنتائج كذلك. إعاقة ملف تشكيل الحكومة ومعه استمرار تعطيل البلد والفوضى. فالتوقيت الذي أخرجت فيه واشنطن العقوبات على باسيل الى العلن يعيدنا الى تجربة الرئيس مصطفى أديب حين أشهرت أميركا سيف العقوبات على الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس، وهي اللحظة نفسها التي يعمل فيها لبنان اليوم على تشكيل الحكومة.
بزي: الجديد في العقوبات أنها بلغت ذورتها
المحلّل السياسي الدكتور وسيم بزي يقدّم في حديث لموقع "العهد" الإخباري قراءة في مشهد العقوبات على الوزير السابق جبران باسيل، فيشدّد على أنّ الإرهاب السياسي الذي تمارسه أميركا ليس جديداً، إنما الجديد فيه هو بلوغ هذه العقوبات الذروة حيث استهدفت رئيس أكبر تكتل سياسي في لبنان، ومعه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون. صحيح أنّ العقوبات على خليل وفنيانوس كانت الذروة لحزبي "المردة" وحركة "أمل"، إلا أنّ العقوبات الحالية استهدفت رأس النظام في البلد أي رئيس الجمهورية ورئيس أكبر تكتل نيابي في البلد مسيحي الطابع وهذه خصوصية جديدة للعقوبات.
خطوة تعبّر عن يأس
ويشدّد بزي على أنّ خطوة الإدارة الأميركية الجديدة تعبّر عن يأس، فبعدما فشلت إدارة ترامب بما يسمى الضغط الأقصى على لبنان، وبعدما فشلت بتطويع البلد وتأليبه ضد حزب الله والمقاومة ذهبت نحو خيار كاسر لأي معايير وحسابات يعمل على ضرب التمثيل الشعبي الحقيقي للناس والديمقراطية بالجوهر، لأنّ العقوبات لا تشكل استهدافاً لشخصية مسيحية بارزة، بل تستهدف بالمعنى الشعبي الانتخابي الديمقراطي رئيس أكبر كتلة شعبية ونيابية بلبنان. وبالتالي وتحت عنوان "العفّة المدعاة" تذهب واشنطن نحو حساب سياسي ليس له علاقة بالفساد بل بجوهر الأجندة الأميركية في لبنان، وهذا يثبت عجز الأميركيين عن إحداث الفارق المطلوب طوال السنة الأخيرة، مع أن منظومة العقوبات بدأت ترتفع مع وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب رويداً رويداً الى أن اتجهت سياسة العقوبات بشكل رسمي نحو لوائح خارج بيئة حزب الله.
ملاحظات على هامش التوقيت
وحين يقرأ بزي في الأهداف، يلفت الى أنّ الهدف أبعد من تشكيل الحكومة. طبعاً الحكومة تشكّل جزءاً من الهدف الكبير. واذا سلّمنا جدلاً أنّ الإطاحة بمشروع مصطفى أديب جاء على يد العقوبات كرسالة معبّرة جداً في لحظة تشكيل الحكومة، لا نستطيع الآن سوى أن نطرح مجموعة علامات استفهام عن توقيت خطوة العقوبات على باسيل. وهنا، يسجّل بزي مجموعة ملاحظات على هامش التوقيت:
أولاً: أمر العقوبات متّخذ وقد أفصح عنه مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر أمام شخصية مسيحية بارزة مقيمة بالولايات المتحدة الأميركية.
ثانياً: مسارعة الإدارة الأميركية "الراحلة" الى اتخاذ هذا القرار في خلسة من الزمن وفي لحظة تبدى فيها المعطى الانتخابي بوضوح داخل الولايات المتحدة الأميركية الى أي وجهة ينحو، مع الإشارة الى مسارعة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو ـ المختفي منذ أيام عن الساحة الإعلامية ـ للحديث حصراً عن هذه القضية.
ثالثاً: إجراء الأميركيين لأكثر من جلسة طويلة مع باسيل. الأسبوع الماضي أقاموا جلسة دامت لأربع ساعات، يضاف اليها جلسة رسمية الأربعاء مع السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا. هذه الاجتماعات أدارت ـ وفق بزي ـ مع باسيل منظومة حوار على قاعدة "العصا والجزرة". ولم يعد سراً أن ما طلبه الأميركيون من جبران باسيل هما أمران جوهريان: الخروج من ورقة التفاهم مع حزب الله، وإدانة مشاركة حزب الله في الجبهات الخارجية. رفضُ باسيل لهذين الطلبين جعل واشنطن تسرّب قبل أيام أنّ العقوبات على باسيل قادمة، والخطير بالأمر أنّ أحد المعنيين الرئيسيين بتشكيل الحكومة استخدم "مونته" لتأخير العقوبات لعشرة أيام على باسيل، علّه ينجح بانتزاع تنازل سياسي له علاقة بتشكيل الحكومة، وحين لم ينجح رفع "مونته" فصدرت العقوبات.
واشنطن تعمل على كسر سياقات وطنية كبيرة
على هذا الأساس، تعمل واشنطن في هذا التوقيت الداخلي المتعدد الأبعاد ـ يقول بزي ـ على كسر سياقات وطنية كبيرة لها علاقة بحجم التمثيل المسيحي لمعاقبة الشعب على خياراته السياسية. بحسب بزي، بعدما ثُكل المسيحيون بانفجار المرفأ وبعدما فشل حراك 17 تشرين الأول بإحداث نقلة نوعية بالسياق الذي تحاول فيه واشنطن الاستثمار، ها هي تلعب لعبة حذف أسماء من المشهد السياسي الداخلي. حذفت الوزيرين خليل وفنيانوس سابقاً، لكن المفارقة تكمن في أنها ولأول مرة تستخدم ما يسمى قانون "ماغنيتسكي" المتعلق بالفساد ولم تذكر حزب الله، مع العلم أنّ الخلفية الكامنة للقرار الأميركي تتعلق بحزب الله وليس الفساد. وهنا يلفت بزي الى أنّ هذه الطبقة السياسية وعندما لم تتمكن واشنطن من إزاحتها في لعبة 17 تشرين الأول ووجدت أنها تعود الى الساحة عملت على حذفها على طريقة أحجار "الداما"، فخليل وفنيانوس وباسيل هم مسؤولو ملفات أحزابهم في العلاقة مع حزب الله.
ويوضح بزي أنّ واشنطن عملت على إمرار العقوبات قبل خروج إدارة ترامب المهين من السياسة الأميركية، وليس سراً أن لباسيل علاقات في أميركا و"التيار الوطني الحر" مؤسسة اغترابية شديدة الفعالية في أميركا وغيرها. وفق بزي، سارع المعنيون لإطلاق العقوبات خوفاً من تغير الحسابات حال تغير الادارة. والأخطر من ذلك ـ برأي بزي ـ أنّ واشنطن تعمل على وضع الرئس عون أمام لحظة مفصلية وكأنهم يريدون الإجهاز على ما تبقى من سنتي الرئاسة، وكل ذلك لهدف وحيد وهو ضرب المقاومة، يضيف بزي.
لتحويل القرار الى حالة وطنية
وفي الختام، يشدد بزي على أنّ التحدي الحقيقي اليوم هو أن نحوّل هذا القرار من حالة ضيّقة الى حالة وطنية للتصدي لها. فالحكومة باتت من الصعب أن تشكّل ـ برأي يزي ـ بعد فشل سياسة "العصا والجزرة" بترغيب جبران والكيدية التي استخدمتها واشنطن في العقوبات.