خاص العهد
اقتراحات سلامة لاستمرار الدعم تهدّد أموال المودعين.. والبدائل كثيرة
فاطمة سلامة
كل يوم يمر في هذا البلد، نكتشف فيه حجم الاستخفاف بأموال الشعب وحقوقه. المودعون أول الضحايا لنظام سياسي أقل ما يقال فيه انه فاسد. الفساد ينخر عظام الدولة ومؤسساتها. نظام بسط يدَي البنك المركزي وفوّض لحاكمه العبث كيفما يريد في السياسة النقدية والمالية. والأخير عوّم المصارف وبسط يديها وأعطاها ما لم تحلم به من هندسات مالية، فكانت النتيجة تعويم على حساب الشعب وشقاء عمرهم المركون في المصارف. ثمة مواطنون محرومون من التصرف بأموالهم المحجوزة بلا وجه حق؛ ومن يدري قد يكون جزء من تلك الأموال -إن لم نجزم كما سرّب نافذون- تبخّر. تماماً كما سيحصل في الاقتراح الذي سُرّب على لسان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لناحية خفض الاحتياطي الإلزامي لإطالة أمد سياسة الدعم الحالية. من يُدقّق في هذا الاقتراح لا يتكبّد عناء ليكتشف أنه سيكون من أموال المودعين. بمعنى آخر، يجترح الحاكم الحلول من جيب الشعب بحجة دعم الشعب، بينما المطلوب معالجة جذرية لا آنية لشراء الوقت. فكيف ستنعكس فكرة خفض الاحتياطي الالزامي -إن نفّذت- على أموال المودعين؟ وكيف السبيل لدعم المواطن اللبناني بعيداً عن سياسة الدعم الحالية؟.
ناصر الدين: خفض الاحتياطي سيتم حكماً من حسابات المودعين
لدى سؤال الكاتب والباحث الاقتصادي الأستاذ زياد ناصر الدين عن مدى تأثير اقتراح سلامة على أموال المودعين، يؤكّد أنّ الاحتياطي الالزامي يبلغ حالياً -وبحسب أقوال البنك المركزي- نحو 17 مليار دولار، يقترح البعض خفضه. خفض هذا الاحتياطي سيتم حكماً من حسابات المودعين. وفق ناصر الدين، يتم استعمال أموال المودعين لشراء الوقت بانتظار نتائج سياسية معينة، ما يعرّض الأسواق لمشكلة تكبر يوماً بعد يوم دون وضع حلول مفيدة. يُسلّم ناصر الدين جدلاً أنّ الأوضاع في لبنان لا تحتمل رفع الدعم، ولكن في الوقت نفسه يتم حجز مليوني حساب للمودعين. هذا الواقع يحتّم أن يتحمل المعنيون مسؤولياتهم إن كان في الحكومة أو مجلس النواب لترشيد القرارات الصحيحة بموضوع الدعم. الأخير يستفيد منه "كارتيل" معيّن ولا يستفيد منه الشعب اللبناني إلا بنسبة محددة، فهل المطلوب شراء الوقت عبر خفض الاحتياطي الالزامي، أم المطلوب المعالجة؟ يسأل ناصر الدين الذي يشير الى الأفكار التي طرحت سابقاً لجهة ترشيد الدعم عبر بطاقات تعطى للعائلات الأكثر فقراً، وهنا يلفت النظر الى أنه وبموازاة حجز أموال المودعين بات جميع الناس فقراء، ما يحتّم علينا التوجه نحو معالجات جذرية لا آنية. وفق ناصر الدين، نحن نستعمل اليوم هذا الاحتياطي، لكن الأجدى أن نستعمله بشيء مفيد ينعش الاقتصاد اللبناني.
مجموعة طروحات كفيلة بدعم الشعب وتقوية الاقتصاد اللبناني
ويشدد ناصر الدين على أنه وبعد انتصار منظومة الفساد في المرحلة الأولى إثر تهريب التدقيق الجنائي الذي لم يسقط بالضربة القاضية بل رُحّل، نحن نحتاج الى قيام خطة إنقاذية لتفادي الانهيار الكبير. علينا البحث في الوجهة التي يُستعمل فيها الاحتياطي الالزامي الذي يتألف من أموال المودعين والشعب. وهنا يدرج ناصر الدين مجموعة طروحات كفيلة بدعم الشعب وتقوية الاقتصاد اللبناني:
أولاً: تحتاج الصناعة في لبنان الى مواد أولية بقيمة 2.5 مليار دولار سنوياً. هذا المبلغ كفيل بإحداث دورة مالية تصل الى حدود الـ11.5 مليار دولار باعتراف الدراسات على مختلف أنواعها. هذا المبلغ يوفّر علينا استيراد نسبة بضائع كبيرة من الخارج حيث كان يبلغ إجمالي الاستيراد 20 مليار دولار سنوياً. وهنا يُشجّع ناصر الدين على عدم ترشيد الاستهلاك فقط بل دعم الانتاج المحلي لخلق فرص عمل وإدخال عملة أجنبية، لكنّ المشكلة -بحسب ناصر الدين- سياسية بحتة، فالدولة العميقة في لبنان ذات أبعاد خارجية يتم تنفيذها من خلال السياسة النقدية.
ثانياً: يدفع لبنان حوالى 3.5 مليار دولار سنوياً مقابل فاتورة المحروقات والفيول. وبدل أن يستعمل لبنان أموال المودعين خلال الفترة القادمة لتغطية هذه النفقات بإمكانه الاستفادة من العروضات الموجودة، على رأسها العراق لاستيراد هذه المواد مع الإشارة الى أنّ كارتيل النفط والمحروقات في لبنان لا يريد حصول هذه الاتفاقيات لأنها تفقده الأرباح الهائلة التي يجنيها. هذا الكارتيل يروج للكثير من الشائعات كالقول بأن نفط العراق خام ويحتاج الى تكرير. وفق ناصر الدين، فإن هذه العملية ليست صعبة وبإمكاننا عقد اتفاقية للتكرير مع دولة عربية مجاورة. بهذه الحالة، يؤجّل لبنان دفع فاتورة المحروقات لمدة سنة أقلها.
ثالثاً: في قضية الأدوية، بإمكان لبنان وبدل دفع فاتورة تبلغ مليار و900 مليون دولار سنوياً لاستيراد الأدوية، بإمكانه تشجيع الصناعة المحلية لا أن يبقى سوقاً لتصريف منتجات الأدوية للدول الأخرى. على المعنيين العمل على دعم وتحفيز مصانع للأدوية في لبنان عبر دعم المواد الأولية اللازمة. وفق المتحدّث، فإنّ الدعم بحدود الـ500 مليون دولار في هذا القطاع سيوفر مليارا و900 مليون دولار بدل استيراد أدوية.
رابعاً: هناك مجموعة كماليات يتم تأمين الدولار لاستيرادها بشكل كبير جداً وهذا الأمر يحتاج الى مراجعة جدية.
خامساً: يُصرف 1.5 مليار دولار سنوياً مقابل دعم مواد غذائية مستوردة من الخارج، بينما المطلوب دعم السوق اللبناني بمواد أولية بقيمة 200 مليون دولار، ما يعمل على تقوية الانتاج اللبناني ويخلق فرص عمل للتخفيف من التضخم.
المال يجب أن يكون في خدمة الاقتصاد لا العكس
بعد عرض هذه الطروحات، يؤكّد ناصر الدين أن هذه التوجهات ليست في قاموس بعض المعنيين لأن المطلوب عكس ذلك. المطلوب أن يكون الاقتصاد في خدمة المال، والانتاج في خدمة المال، والمجتمع في خدمة هذه السياسة النقدية لتحقيق أهدافها السياسية التي باتت واضحة. وفق ناصر الدين، فإنّ السياسة النقدية بقيادة الدولة العميقة تريد تحقيق نتائج معينة على حساب الشعب اللبناني وحماية منظومة الفساد الموجودة. وبالتالي، فإنّ تحالف الفساد بين السياسة النقدية والطبقة السياسية لا يزال موجوداً على الناس بشكل مباشر. وفق المتحدّث، يجب أن يكون المال في خدمة الاقتصاد لتحسين ظروف الليرة. وبحسب ناصر الدين، من الممكن التصرف بالاحتياطي الالزامي لأجل تنفيذ رؤية اقتصادية تنقذ الاقتصاد وتقويه، لا للاستمرار بسياسة الدعم الحالية.
إيران واحدة من السبل الأساسية للخروج من الأزمة
وخلال مقاربته هذه القضية، يتطرق ناصر الدين الى العروضات الإيرانية، مشدداً على أنّ إيران هي واحدة من السبل الأساسية التي من خلالها يمكننا الخروج من الأزمة، لكن الواقع السياسي في لبنان يرى دائماً من منظار خدمة الدولة العميقة أي خدمة الأهداف الأميركية بشكل أساسي على حساب الاقتصاد اللبناني المحاصر والمعاقب. ويشدّد ناصر الدين على أنّ خطة الدعم اذا استمرت بهذه الطريقة لشراء الوقت وإعطاء بعض الأوكسيجين لبضعة أشهر على حساب أموال المودعين ريثما تحل الأزمة، هذه السياسة ليست حلاً بالمطلق. الحل يكمن في الترشيد الصحيح عبر دعم مواد أولية تحتاجها الصناعة اللبنانية، فيما يدفع لبنان ثمن البضائع المستوردة أضعافاً مضاعفة من الخارج.
ويدخل ناصر الدين في التفاصيل القانونية، فيشدد على أنّ الاحتياطي الالزامي قانوناً يجب أن يكون وفقاً لليرة اللبنانية لا العملة الأجنبية ولكن بات كذلك بناء على اجتهاد وتعميم داخلي نظراً لوجود ودائع أجنبية واقتصاد مدولر، حيث وضعت نسبة 17 بالمئة كاحتياطي الزامي من الودائع بالعملة الأجنبية، وقد جرى الإشارة الى مبلغ 17 مليار دولار من أصل 110 مليارات دولار ما يدفعنا الى السؤال أين ذهب فرق هذه الأموال؟.
ويوضح ناصر الدين أنّ هذا الاحتياطي ليس أموال "كاش" موجودة في الداخل اللبناني، بل أموال مرسلة خارح لبنان. الحديث عن خفض الاحتياطي -بحسب ناصر الدين- يشكل مسارا للوصول الى مرحلة يقال فيها انه يجب استخدام الذهب. تحريك هذا الموضوع مقدمة لبيع مقدرات وأملاك الدولة، فالمشروع هو إفراغ لبنان بشكل كامل من مقدراته ومميزاته، فسوء الادارة المالية تصب في مصلحة ما يحصل في المنطقة وسط أجواء التطبيع وتشكيل نظام اقتصادي جديد، وفي ظل فتح ملف الغاز والطاقة في المنطقة. برأي المتحدث، هناك فرق بين أن تكون الدولة ذات سيادة ولديها مصادر للطاقة، وأن تكون محاصرة ومفروضا عليها العقوبات ومحتجزة أموال مودعيها في ظل انعدام الثقة بالنظام المصرفي. يخشى ناصر الدين أن يدخل لبنان ضمن مشروع لصندوق النقد الدولي يتم التخطيط له وتنفيذه على كل سواحل البحر المتوسط ويرتبط بشكل أساسي بالسيطرة على مصادر الطاقة لهذه البلدان.