خاص العهد
مهندس النصر.. قصة "الشايب" منذ البدايات حتى السفر الأخير
لم يكن يليق به الرحيل بغير تلك الصورة، شهيدًا مظلومًا، ممزوجًة دماؤه بدماء توأم الروح. ذات مرّة، عبّر عن علاقته بالحاج قاسم بالقول "أنا جندي الحاج قاسم.. وأفتخر". هكذا يكون الرحيل لائقًا بهما.. نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي الحاج أبو مهدي المهندس، لم يكن ليهنأ في حياة فارقها حبيبه الحاج قاسم. في آخر اتصال بينهما، طلب الحاج أبو مهدي الى الحاج قاسم عدم القدوم الى بغداد لعلمه بأن الوضع الأمني غير مناسب، أصرّ الحاج قاسم على الحضور، طالبًا من الحاج أبو مهدي عدم المجيء الى المطار، فكان جوابه كما اعتاد دومًا، منذ بداية تعارفهما: مستقبًلا للحاج قاسم في المطار، ومودعًا له شخصيًا.. لكن هذه المرّة، ذهبا سويّة في رحلة خططا لها معًا، لن يفترقا بعدها أبدًا.
منذ أيام النظام الديكتاتوري لصدام حسين في العراق، كان المهندس جمال آل ابراهيم المعروف جهادياً بـ "ابو مهدي المهندس" مجاهدًا ومقاومًا لأجل حرية الشعب العراقي. في تلك المرحلة، عمل قائدًا ميدانيا فترة طويلة، فكان يذهب الى الأهوار ويبقى مع المقاتلين لتنفيذ عمليات ضد النظام، وهناك تدرج الحاج أبو مهدي في المناصب العسكرية حتى أصبح رئيس أركان حركة "بدر". وبسبب معرفته بالكواليس داخل الجمهورية الاسلامية الايرانية وعلاقاته هناك، استطاع أن يساعد في تقوية منظمة بدر التي كانت فوج بدر في البداية، ثم تحولت الى لواء، ثم فرقة، ففيلق، الى أن أصبحت منظمة بدر. وعن طريق الجمهورية الاسلامية، طور الحاج أبو مهدي ودرّب وأمّن لبدر التجهيزات والترتيبات، وقاد بدر لفترة معينة، ثم خاض غمار العمل السياسي. ومن تلك الحقبة، بدأت رحلة ارتباطه الوثيقة بالحاج قاسم سليماني، حتى بات مستودع أسرار الحاج قاسم العراقية وحتى الخليجية.
فتح الحاج أبو مهدي علاقات للاخوة المقاتلين ضد الاحتلال مع الحاج قاسم وأنشؤوا مجاميع عسكرية متفرقة. لم تكن هناك قيادة وتنظيم، بل مجموعات كثيرة يتصل بها الحاج أبو مهدي ويرسلها الى ايران وهناك يتواصل معها الحاج قاسم والاخوة في الحرس، كان يتكفلهم الحاج قاسم ويجلس معهم. وأهم تشكيلين عسكريين ساهم الحاج أبو مهدي بشكل رئيسي في ترتيبهما وتنظيمهما هما كتائب حزب الله (كانوا في حينها أكثر من 6 مجموعات بينها كتائب أبو الفضل العباس قبل توحيدهم بجهد الحاج)، وعصائب أهل الحق.
تواصل الحاج أبو مهدي مع جميع الأفرقاء، وبينهم التيار الصدري. يروي القائد العارف جدًا بأبو مهدي لـ"العهد": "في مرحلة الحصار الاميركي للنجف، كان له دور بارز، فأدخل رغم أنف الأميركيين وحواجزهم السيارات المحملة بالسلاح والذخائر والعتاد الى المدينة. وكذلك، في الحرب الأميركية ضد مدينة الصدر، كان له دور مهم جدًا في مساعدة الاخوة على الأرض، ميدانيًا، وسياسيًا أيضًا من خلال الضغط السياسي".
خلال فترة الاحتلال، انتخب ابو مهدي عضوًا في مجلس النواب، لكنه كان على لائحة الارهاب الاميركية. ولذلك، عند ذهابه الى العراق، كان يتخفى من المحتلين، ولم يتمكن من ممارسة دوره بشكل واضح في البرلمان، بل كان يأتي الى البرلمان بين حين وآخر ليزعج الأميركيين. قبل الانسحاب الأميركي من العراق، كان الحنق قد وصل مبتغاه من الحاج ابو مهدي، لا سيما في مرحلة 2006 حين وصلت العمليات الجهادية الى ذروتها وتكبد الأميركيون خسائر قاسية. وصل الى ابو مهدي تهديد علني واضح بأنه في دائرة التصفية الاميركية.. منذ تلك المرحلة، ينظر الأميركيون الى المهندس على انه الرقم الثاني في العراق بعد الحاج قاسم.
لم يقتصر عمل الحاج أبو مهدي على الميدان العسكري فقط، بل كانت له آثاره البيّنة على العمل السياسي، حيث عمل على القضايا السياسية في مجلس النواب وقانون الانتخاب والدستور، والحكومة ورئاستها والمجلس الوطني. كلها قضايا كان يساعد فيها. كانت لأياديه آثار مباركة عندما أقر المجلس النيابي قوننة الحشد الشعبي. حينها لم يكن يعدم تواصلًا مع أغلب النواب والكتل السياسية ويحثهم على المشاركة في الجلسة. كانت له علاقات ممتازة مع السنة والأزيدية، والأكراد الذين كانوا يعتبرونه وسيطا في فترة من الفترات، والمسيحيين ايضًا.
منذ أن دخل الارهاب الداعشي الى أرض العراق، كان الحاج أبو مهدي أكثر الحاضرين والفاعلين، فلم يترك حتى انتهاء العمليات العسكرية في العراق أية عملية دون أن يكون مشاركًا مباشرًا فيها على الأرض. لم تكن هناك أية عملية لم يشارك بها. لم يكن لـ"الشايب" غياب ابدًا عن الجبهة، حتى أنه كان يحضر غالبية عمليات تطهير المناطق بعد تحريرها وتثبيت المجاهدين. وعمل الحاج شخصيًا على خطوط الدفاع بين سوريا والعراق، وأمن دعمًا مدفعيًا ولوجستيًا للاخوان القادمين باتجاه البوكمال من جهة العراق.. مراسم زيارات الأربعينية وزيارة آل الرسول(ص) في النجف تشهد مشاركة الحشد الفاعلة في تنظيمها باشراف مباشر من المهندس.
وللميدان أسياده.. كان أبو مهدي قائدًا عسكريًا وشخصية قيادية استثنائية. غرفة العمليات التي كان يديرها والحاج قاسم على الجبهات لم تكن تشبه ما نراه في الأفلام. بيوت مهدمة بجدران متصدعة وسقف، كانت تكفي القائدين العسكريين اللذين شيّبا رأس الاستكبار، لادارة معاركهما. معارك عسكرية كثيرة أدارها من على ظهر السيارة أو جالساً على الأرض.
في منطقتي ديالا وآمرلي، كانت غرفة العمليات عبارة عن خيم أو "كونتينر" حديد مع بساط على الأرض. كل هذه الأجواء لم تكن تلائم أبو مهدي الذي كان يعاني من مشاكل صحية، لكنه لم يتلكأ يومًا.. ففي منطقة آمرلي، لزم والحاج قاسم منطقة العمليات قرابة الشهر حتى انجاز فك الحصار. هناك في الصحراء، مرّت على الرجلين والمجاهدين كل الفصول، وكل درجات الحرارة، تارة تنزل الى ما دون الصفر، وتارة ترتفع الى ما فوق الخمسين. هكذا يكون رجال الله في الميدان.
شخصيته مؤثرة، هذا ما يجمع عليه عارفوه، فكل من جلس معه أحبه. يكلل حديثه بالأدب، ويتحاشى الغضب، فيدرس عباراته قبل قولها. انسان متدين، ومواظب على كثير من الأعمال المستحبة. علاقته خاصة مع الامام الرضا(ع)، فعندما يذهب الى زيارته كان أول ما يقوله: "يا أيها العزيز مسنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة".
كان الحاج أبو مهدي رغم انشغاله الكبير مواظبًا على قراءة سورة الواقعة في نافلة العشاء، وكان مقرئًا ممتازًا للقرآن، وصوته أجش ويخبئ حنانا ملفتا، وكان ضليعا باللغة العربية.
الضوابط الشرعية خلال الحرب كانت هاجس الحاج. كان الحاج يومًا في قاعدة سبايكر، وكانت هناك عمليات على غرب صحراء صلاح الدين، فسمع باعتقال مجموعة من قادة "داعش"، وتبين لاحقًا أن أحد المعتقلين لم يكن من "الدواعش" بل كان متواجدًا بينهم فقط، فغضب الحاج لذلك، وافتتح جلسة العمليات، بالحديث عن هذا الموضوع.. واعترض بقساوة على هذا الخطأ موجهًا الحديث بشكل مباشر الى الجهة التي نفذت الاعتقال.
ومرة كان في سيارته داخلًا الى مدينة تكريت بعد تحريرها، فوجد آليتين كبيرتين تحملان تجهيزات من مولد للكهرباء وسيارات ضخمة الى خارج المدينة على اعتبار أنها ملك للتكفيريين، فسألهم الحاج: "ما هذا؟"، فقالوا "هذه للدواعش"، أجاب: "من أكد لكم أنها للدواعش؟ وماذا لو كانت للسكان؟"، طالبا اعادتها الى مكانها. ورغم احتدام النقاش والاتصالات الكثيرة التي وصلته ليتم تمرير الآليات، الا أن الحاج بقي مصرًا على موقفه رافضَا التحرك من امامهم حتى يعيدوا الحمولة، وهذا ما حصل. هذه الحادثة كانت تتكرر في أكثر من منطقة حيث كان ينزل هو شخصيا من السيارة ويتدخل بشخصه.
أما السيارات التي كان الحاج يتنقل بها، فكانت عادية جدًا، لم يكن نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي يقبل التنقل في سيارة مصفحة، وفي بعض الأحيان كان يتنقل في سيارات الدفع الرباعي، لكنه غالبًا كان يعتمد على السيارات الصغيرة. تواضعه كان شديدًا، من سنخية رفيقه الحاج قاسم.
كانت ادارة الحاج أبو مهدي للحشد متميزة واستيعابه فريدًا. أكثر من شخصية عندما كانت تأتي الى لقاء أبو مهدي بوجه متجهم، كانت تخرج بابتسامة عريضة. حتى أولئك الذين كانوا يتناولونه بشكل سلبي في الشارع والإعلام، لم تكن لديه مشكلة معهم، بل كان يسلم عليهم ببشاشة وجهه المعروفة. لم يقطع الحاج علاقته مع الشباب الذين كان معهم في البدايات على الجبهة، وكان باستمرار يزور أهالي الشهداء ويتواجد بمراسم التعزية. كان معروفًا باهتمامه الخاص بعوائل الشهداء والجرحى، وأنشأ لهم مؤسسة مهمة ومؤسسات صحية للجرحى.
كان الملف المالي للحشد من بين اهتمامات ابو مهدي الخاصة، فكان في بعض الأحيان ينتقل من الموصل (450 كلم تقريبًا عن بغداد) الى بغداد فقط حتى يتابع الأمور المالية للحشد.
قبل السفر الأخير، كان قد مرّ على اللقاء الأخير للقائدين الكبيرين قرابة الأربعة أو خمسة أيام، وكان أبو مهدي مريضًا. في ليلة الجريمة، اتصل بالحاج قاسم (كانت للحاج قاسم مواعيد في طهران عند السابعة صباحًا ولم يكن قد اتصل بمكتبه هناك لالغائها..) طالبًا اليه عدم القدوم لأن الوضع غير جيد، رد الحاج قاسم: "أنت لا تأت، أرسل لي الشباب ولا تأت"، فأجاب: "اذا أتيت، فأنا سأحضر"، كان أبو مهدي قد اعتاد دومًا استقبال الحاج قاسم من المطار عند قدومه، وتوديعه شخصيًا حين الرحيل.. ولم يشأ ليلتها أن يغيّر من عادته.. لكنهما، حتمًا برحيلهما غيّرا وجه المنطقة، فلن يرضى حرٌّ بعد اليوم بوجود أميركي في بلاد أراد لها الحاج قاسم والحاج أبو مهدي أن تكون حرة مطهرةً من أي دنس.
أبو مهدي المهندسقاسم سليماني#فارس_القدس