معركة أولي البأس

خاص العهد

ذاكرة بيروت لا تُمحى
11/03/2021

ذاكرة بيروت لا تُمحى

زينب نعمة

بعد مرور أكثر من 7 أشهر على انفجار المرفأ، بدأت العائلات البيروتية بترميم منازلها ذات الطابع الأثريّ. والمعروف أنّ هذه الأبنية تضمّ تفاصيل هندسية بالغة الجمال كالقناطر والحفريات الحجرية والأسقف الخشبية العالية والقرميد، والجملون والأباجورات الخشبية وجدران الحجر الرمليّ والقمرية (المنور)الخ.. هذا الفنّ كلّه تحوّل في لحظات إلى حطام أثناء الانفجار التاريخي الذي شُبّه كزلزال بقوة 4 درجات على مقياس "رختر".

يصف السيد إيلي أبي صادر أحد سكان محلّة فرن الحايك في منطقة الأشرفية كيف تضرر منزل العائلة بشكل كبير وكيف أضحى في ثوان ٍ معدودة كتلاً من الخراب. البيت الذي تقطن فيه والدته الثمانينية يعود بناؤه للحقبة العثمانية (1890) بحسب أبي صادر. وعن ورشة التصليح يخبرنا كيف تمّ إنقاذ المنزل الأثريّ عبر الاستعانة بمتخصصين في المجال التراثي كالنجّار العربي لتصليح الأباجورات، ومعلمين مختصّين بترميم الأحجار والأعمدة الرمليّة. وتمّ التركيز أثناء عملية التصليح على مراعاة التفاصيل التي كانت موجودة سابقًا والتي تحمل الطابع الفنيّ القديم، مع ما يتضمنه هذا الأمر من صعوبات بالغة للوصول إلى الحرفيين والمعلمين التقليديين الذين باتوا قلّة في ظلّ التطوّر العمراني الحديث.
اليوم وبعد أسابيع من العمل المضني، عاد منزل آل صادر إلى ما كان عليه سابقًا إلى حدّ ما.

أثناء جولة في شارعيْ مار مخايل والجميزة الأثريين على بعد مسافة قليلة من المرفأ، يلحظ روّاد المنطقة أعمال الترميم وعشرات الورش للعديد من المباني التراثية.

ذاكرة بيروت لا تُمحى

يقول الأهالي لموقع "العهد" الإخباري إنّ التصليحات مكلفة جدًا، خاصّة مع استمرار ارتفاع الدولار الذي يلقي بتبعاته على عمليات الترميم، ما أثقل كاهلهم خاصّة بعد حجز أموالهم في البنوك. وعلى الرغم من كلّ الأزمات، يصرّون على استكمال الأعمال لما لهذه المباني من خاصيّة في نفوسهم وذاكرتهم وماضيهم.

وبحسب "جمعية تراث بيروت"، تضمّ مدينة بيروت حوالي 600 مبنى قديم، حوالي 200 مبنى منها هي مبانٍ مصنفة أثرية. يتمّ اعتماد معيار الحقبات الزمنية التي شيّد فيها البناء. فالمبنى البيروتي الذي شيّد خلال الحقبتين العثمانية والفرنسية حصرًا يُطلق عليه تراثي، أمّا باقي الأبنية فهي تحت تصنيف "قديم".

الأبنية الأثرية كانت تشيّد بطرق مختلفة عن طرق التشييد الحالية، فطرق تصميمها كانت من حجر القطع الطبيعي وليس الصناعي، ويتجاوز ارتفاع الأسقف حوالي الثلاثة أمتار ونصف في حين ارتفاع الأسقف الحالية حوالي المترين والنصف. وتحتوي هذه الأبنية على القناطر الداخلية والخارجية التي تُبنى بتصميم هندسي أنيق. بعض الأبنية كان يشيّد عليها القرميد ليعطي جمالية كبيرة وكان يُبنى فوق القرميد الخشبيّ المميز من النوع البحري الذي يقاوم المياه والرطوبة ويتّصف بالديمومة والقوة والمتانة ويبقى لسنوات طويلة.

ذاكرة بيروت لا تُمحى

أضرار كبيرة تعرضت لها هذه المباني الأثرية، تقول بحسرة منسقة الأنشطة والاعلام في جمعية تراث بيروت "إنعام خالد" التي واكبت ملف تداعيات التفجير على هذه الأبنية منذ اللحظات الأولى. تصف إنعام في حديث مع "العهد" ما حدث بـ"هيروشيما" حيث لا يمكن لعقل أن يصدق ما وقع في ثوانٍ معدودات.

بعد الاستيقاظ من الصدمة بدأ العمل لرفع الآثار التدميرية عبر مبادرة أطلقتها مجموعة جمعيات في المجتمع المدني. تمّ استقبال متطوعين في مختلف المجالات (مهندسين، مصورين، الخ..) ووُضعت خطّة لإجراء مسح ميداني عبر جمعية بيروت للتراث وذلك بتوصية خاصّة من المديرية العامة للآثار لإحصاء الأضرار وتصنيفها حسب المستويات الثلاثة: كبيرة، متوسطة، وصغيرة. وبحسب المناطق والأحياء والشوارع أيضًا. هذه المبادرة هي واحدة من عشرات المبادرات التي كان لها دور كبير في إحصاء مبدئي لحجم الدمار، حيث تمّ رصد حوالي 60 مبنى أثريا مدمرا بشكل كبير وأكثر من 120 مبنى متضررا جزئيًا أو بدرجة متوسطة أو صغيرة، وأيضًا لرفع الأنقاض وتنظيف الشوارع من الزجاج والحطام الكبير.

ذاكرة بيروت لا تُمحى

عملية الرّصد أتت عبر مسح ميداني أجرته جمعية تراث بيروت تمّ خلاله تعبئة استمارات وجمع معلومات متعلّقة بالمباني التي طالها الضرر وبحجم المقتنيات الأثرية التي طالها الأذى.

الحيان الأثريان الأكثر تعرضًا للضرر هما شارعا مار مخايل والجميزة (مصنفان ذوَي طابع تراثي) اللذان يقعان مباشرة في الجهة الشرقية للمرفأ على بعد حوالي 800 متر.

كانت الأولوية أن يتمّ إيواء الأهالي في المنازل بشكل سريع، فسعت المبادرات للعمل على تدعيم وتركيب أسطح مؤقتة، وتغطية الواجهات المدمرة بشوادر بيضاء أو نايلون سميك مخصص للأسطح والنوافذ والجدران المفتوحة يتمّ وضعها مؤقتًا إلى حين إعادة ترميم المنزل. أمّا العائلات التي تضرّرت منازلها القديمة بشكل فادح، فقد تركتها وانتقلت الى مأوى مؤقت.

بالحديث عن تفاصيل ترميم المباني القديمة المتضررة تؤكد إنعام (التي تعمل منذ سنوات في ملف الأبنية والمقتنيات القديمة) أنّ تكلفة ترميم هذه المباني باهظة جدًا بسبب ارتفاع أسعار المواد الأوليّة المستخدمة، وبدقّة التقنيات المستخدمة في العمارة، إذ إنّ الكثير من الأثاث يحتاج إلى نجار عربي متخصص، وإلى حرفيين وفنيين يجيدون الأعمال اليدوية بكافة أنواعها وأشكالها.
 

ذاكرة بيروت لا تُمحى

 تأمل الجمعية بأن يحصل أهالي هذه الأبنية على دعم مالي يستطيعون من خلاله أن يكملوا ترميم منازلهم، وتدعو من يستطيع المساعدة الى أن يبادر إلى تقديم العون، وتضافر جهود كلّ الجهات العاملة في مجال الهندسة والبناء والتصميم في سبيل تحقيق هذا الهدف.

بالنسبة لجمعية "تراث بيروت"، الموضوع أهمّ وأعمق من مجرد لملمة آثار التدمير، والترميم العادي للأبنية. يعتبر العاملون في الجمعية أن كل قطعة أثرية وكلّ جزء هي كنز لا يقدّر بثمن. وقامت الجمعية بالتعاون مع جمعية "أحلى فوضى" بمبادرة ترميم منزل واحد، عبر إشراف المديرية العامة للآثار، حيث تمّت مراعاة المعايير الدقيقة جداً في الترميم، كي تكون النتيجة مشابهة إلى حد كبير للبناء الأصلي.

ومن باب الحرص على مستقبل وبقاء هذا الإرث العمراني والحضاري، تطالب جمعية "تراث بيروت" بإقرار قانون عبر مجلس النواب لحفظ حقّ أصحاب هذه المباني وخصوصًا أنّ معظمهم من المسنين مع مراعاة المحافظة على الثروة الأثرية الكبيرة والإرث العمراني الشاهد على تاريخ كامل وكنز حضاريّ بالغ الأهمية.

جمعية "تراث بيروت" هي مؤسسة تضمّ نخبة من الباحثين في تاريخ بيروت وتراثها وفريق من الناشطين في هذا المجال ضمن لجان متخصصة. أهدافها تتمثّل في إحياء التراث البيروتي بما يتضمنه من عادات وتقاليد وقيم وإرث ثقافي وفني واجتماعي وحضاري وعمراني وذلك لإبراز الوجه الحضاري لمدينة بيروت.

تراثبيروت الكبرىتراث بيروتالهندسة المعمارية

إقرأ المزيد في: خاص العهد

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة

خبر عاجل