معركة أولي البأس

خاص العهد

موظفو القطاع العام: أعمال سخرة؟
23/05/2022

موظفو القطاع العام: أعمال سخرة؟

يمنى المقداد

 

تتغنّى دول العالم بقطاعها العام، فهو يمثّل بمؤسساته بنية الدولة، بل الدولة بذاتها، إلّا في لبنان "بلد العجائب"، فإنّ الدولة تدمّر ذاتها بذاتها من خلال إهمال القطاع العام، وسعي بعض أقطابها إلى ضربه خدمة لمؤسسات خاصة إمّا يملكونها أو يستفيدون منها وتشكّل ما يسمّى بـ"القطاع الخاص".

والجدير ذكره أنّ القطاع العام يشتمل على كلّ الخدمات والمؤسسات العامة، منها الجيش والقوى الأمنيّة والطرقات والجسور والأنفاق وإمدادات المياه والصرف الصحي والشبكات الكهربائية والاتصالات والنقل والتعليم العامين إلى جانب الرعاية الصحية وغيرها، وانهيار القطاع يعني تعطّل الدولة.

أفشل وليس فاشلا

تتمثّل المعاناة المعيشية لموظفي القطاع العام اليوم بالرواتب الهزيلة، وفق العضو السابق في الهيئة الإدارية لرابطة موظفي الإدارة العامة الدكتور ديب هاشم، الذي رفض في حديثه لموقع "العهد"، مقولة فشل القطاع العام لافتا إلى أنّه "أُفشل"، كما "أفشلت" مؤسسة كهرباء لبنان ويتم العمل لإفشال قطاع الخليوي الذي كان يعتبر نفط  لبنان ويدرّ للخزينة نحو مليار و200 مليون دولار وتقلّص لنحو 35 مليون دولار. والقطاع العام يعاني بالأساس من مشاكل ضخمة، ولديه شواغر بحدود 17 ألف وظيفة، وبدل حلّها تمّ توظيف أشخاص بطريقة غير قانونية أضافت عبئًا جديدًا على الإدارة.

رواتب ميتة

هاشم الذي يشغل حاليًا منصب رئيس دائرة في وزارة الصناعة ورئيس مصلحة الصناعة بالإنابة في الجنوب يرى أنّ موظفي وعاملي القطاع وصلوا إلى الحضيض، مضيفًا: تمنّينا منذ بدء الأزمة أن نبقى عند خط الفقر الذي حدّده البنك الدولي بـ 1.9 دولارا للفرد في اليوم، أي أنّ أسرة من أربعة أفراد تحتاج إلى 10 دولارات يوميًا (300 دولار شهريا)، وأردف: "أنا كرئيس دائرة منذ حوالي 25 عاما ورئيس مصلحة منذ 12 عاما، يبلغ راتبي 3 ملايين و600 ألف ليرة (120 دولارا تقريبا)، وهناك من يقبض مليونًا و750 ألف ليرة شهريا يدفعها فاتورة اشتراك خاص، فيما تبلغ رواتب الفئات الرابعة نحو المليونين ونصف المليون ليرة لا تكفيهم لمدّة 3 أيام، كما لم يعد هناك تقديمات لتعاونية موظفي الدولة، وإذا أردنا دخول المستشفى نفاجأ بأرقام مهولة توازي راتبنا لسنة كاملة، عدا عن مشكلة تأمين بدل النقل حيث أسكن في جبشيت وعملي في صيدا والمسافة بينهما 8 كيلومتر وأحتاج صفيحة بنزين ونصف كلّ ثلاثة أيّام بمعدّل 6 صفائح  شهريا أي أكثر من راتبي".

مؤشرات الانهيار

يتابع هاشم شرح مؤشرات الانهيار التدريجي للقطاع العام، ففي الدائرة التي يرأسها لا يوجد ورق ولا حبر ولا  كهرباء ولا طوابع حين يأتي المواطن لينجز معاملة وأحيانا يشتري الموظفون القرطاسية من جيوبهم، ويجزم بأنّ لا شيء يبشّر بنهوض القطاع مجددًا، مطالبًا بوضع خطّة لإدارة الأزمة باعتبار أنّ لا مجال لحلّها حاليًا.

موظفو القطاع العام: أعمال سخرة؟

أمّا كيف نستمر؟ فيجيب هاشم بأنّ الكثيرين غادروا وأنّ من بقي ليس لديه خيار آخر، وأنّ عددًا قليلًا من الموظفين يداومون، مشيرًا إلى أنّ ما يعاني منه موظفو القطاع العام هو نوع من الغربة عند المسؤولين الذين يجهلون القطاع ومشاكله ويعالجونها من "فوق" على حدّ تعبيره، متسغربًا كيف يقرّون مساعدة بقيمة نصف راتب في حين تقول الموازنة براتب كامل، وكيف يشترطون أن يداوم الموظف لمدّة 3 أيام للحصول عليها في حين لا يسمح له وضعه بالوصول إلى عمله: "نعمل سخرة".

الحلّ بتصحيح الأجور

إلى ذلك، يعاني القطاع العام من غياب الخطط على مستوى حلّ الأزمة وإدارتها برأي هاشم الذي يجزم بأنّهم لا يعرفون كيفيّة ذلك لأنّ من يلزم الموظف بأن يداوم 5 أيّام بدون أن يميز بين الموظف القريب أو البعيد عن عمله وبدون أن يدبّر خطة نقل فهذا لا يعرف شيئًا. وحول المطالب، يلفت إلى أنّ المساعدة الاجتماعية ورفع بدل النقل الى 64 ألف ليرة لا يحلان المشكلة، إذ يغيب عن المعنيين الأمر الأساسي وهو تصحيح الأجور، أقلّه بمبلغ 300 دولار شهريا، وتحسين تقديمات تعاونية موظفي الدولة كي لا يضطر الموظف عند دخول المستشفى إلى الاستدانة أو الموت على بابها، عطفًا على خطّة نقل عام.

ويكمل هاشم جازمًا بأنّ من "بأيديهم" حل مشكلة القطاع العام لا يريدون ذلك، خشية أن يؤدي هذا الى مطالبة موظفي القطاع الخاص بتصحيح الأجور كذلك، ملمّحًا الى أصحاب الهيئات الاقتصادية  بالدرجة الأولى الذين يستفيدون من تدني الرواتب والأجور إلى حد انعدامها، كما أنّهم يدفعون ضرائب متدنيّة للدولة على 1500 ليرة ولا يريدون أن تتحسن رواتب القطاع العام ويضغطون بهذا الاتجاه.

يعاني القطاع العام اليوم بكل مؤسساته وإداراته العامة، كما تراجع حضور موظفيه بشكل كبير وأصبح لا يتعدّى يومًا أو يومين خلال الأسبوع، وأصبح مكلفًا كثيرًا وغير منتج، ويكبّد الدولة الكثير من المصاريف، بهذه الكلمات وصّف الخبير الاقتصادي الدكتور نبيل سرور حال القطاع العام في لبنان، موضحًا أنّ القطاع يضم 320 ألف موظف من إداريين وموظفين في السلك الدبلوماسي والقضاء والأسلاك العسكرية والأمنية وسواها، ويشكلون 25% من حجم القوى العاملة في لبنان، يضاف إليهم حوالي 120 ألف متقاعد، يكلّفون الدولة من حيث الرواتب والمبالغ المترتبة للموظفين حوالي 12 ألف مليار ليرة سنويا في حين لا يتعدّى دخلها 13800 مليار ليرة سنويا.

 كما جرى وفق سرور إدخال ما لا يقلّ عن 30000 موظف بين 2007 و2017، لافتا إلى أنّ إيرادات الدولة من القطاع تراجعت إلى حدّ كبير في ظلّ الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة الحاليّة، وأنّ القطاع أصبح يعيش حالة من الضعف الكبير وشبه الشلل، نتيجة الحضور الضئيل للموظفين، والنقص في التجهيزات الأساسيّة واللوجستيّة كورق الايصالات والمعاملات اليومية والسجلات، ولوازم المحابر والإنترنت وسواها من الاحتياجات الأساسية لتسيير الإيرادات.

ماذا لو انهار القطاع العام برمّته؟

هذه الفرضية واردة وفق سرور، لكن لحدّ الآن لا يزال القطاع رغم مشاكله صامدًا يحاول البقاء بالإمكانات القليلة، مشيرًا إلى الحاجة الكبيرة اليوم في المؤسسات العامة الى المحروقات كما في قطاع الكهرباء التي تقتصر تغذيتها على أربع أو خمس ساعات يوميًا، وكذلك الاتصالات بحيث أصبح التواصل صعبًا من خلال الإنترنت، ومثلهما الجامعة اللبنانية التي تقبع في وضع صعب جدا على مستوى تزويد الكليّات بالمستلزمات الأساسية ورواتب القطاع الجامعي، كما تأثّرت مرافق الدولة العامة وضعفت إنتاجيتها كما أن هناك ظاهرة أساسية وهي هجرة  كبار موظفي القطاعات الأساسية للدولة من ذوي الخبرات الهندسية والتكنولوجية المتقدمة والأطباء وغيرهم.

ماذا عن طرح  الخصخصة لإنقاذ القطاع العام؟

يقول سرور إنّ الخصخصة ربّما تكون حلًا جزئيًا ولكنها ليست الحل الكامل، فهي قد تصيب بعض المرافق والمؤسسات العامة وتكون حلا لها، لكنها تعطي القطاع الخاص كل السلطة والإدارة، فيما يمكن أن تكون هناك إدارات مختلطة بين القطاع الخاص والعام وربما كان هذا هو الحل المناسب.

توقّف سرور عند العوامل المنقذة للقطاع العام من الانهيار بدءا من إرادة السلطة السياسية لاصلاح الإدارة، معالجة الهياكل الفضفاضة والتضخم في عدد الوظائف، مدّه بموازنات، تعيين أشخاص كفوئين ورفع الغطاء عن الفاسدين ومنعهم من البقاء في الإدارات العامّة، وإعداد هيكليات للإدارة العامة تلبّي مطالبها الأساسيّة، لافتًا في المقابل إلى أنّ عوامل الخطر لا تزال قائمة وأنّ النظرية التي تقول "إذا انتهى القطاع العام انتهت الدولة" هي نظرية صائبة الى حدّ كبير، وأنّ أي دولة تكون مهدّدة بالانهيار إذا أصيبت الإدارة العامة فيها بالانهيار، موجهًا النداء إلى كلّ المسؤولين أن يعملوا كلّ ما بوسعهم لإنقاذ القطاع.

بالنتيجة...

 لطالما وصف القطاع العام بمزراب الهدر في الدولة، وفي هذه الصورة النمطية تجنّ على إداريين وموظّفين أكفاء عملوا في هذا القطاع وكانوا مثالًا للشرف والنزاهة والإنتاجية، في مقابل حقيقة تقول إنّ هناك فسادًا نخر في القطاع، فكان عبئًا على الدولة بدل أن يكون رافدًا لوارداتها، واليوم تضخّم العبء مهدّدًا استمرارية القطاع، وهو أمر لا يهدّد معيشة 320 ألف موظف فحسب بل كلّ مواطني لبنان، فهل من منقذ؟

إقرأ المزيد في: خاص العهد