خاص العهد
الشيخ قاووق.. الشاهد على أيام التحرير وحضور العماد
رنا الساحلي
هي ذاكرةٌ لا يمكن أن تخبو أشعلتها نيران المقاومة في دشمات العدو.. كانت الضربات تتوالى واشتد وقْعُها عندما تهامست الجدران أن الاندحار قادم.. لم تعد الأرضُ تحتمل وطء أقدامهم، كل شيء بدأ يتهاوى أمام ذاك العميل الذي لم يمهله مشغله أي لحظة للاختباء.
إثنان وعشرون عاماً مرّت ولا زالت الذاكرة تضجُ بكلّ لحظات ذاك اليوم.
إنه الخامس والعشرون من أيار ٢٠٠٠ حيث اكتمال صورة اسمها الحرية وكسر القيود.
في مكتبه المتواضع في قلب الضاحية الجنوبية يستقبلك بهيبته ومحياه الأنيس على القلوب رجل خَبِر كل خبايا التحرير وعاش أسرارها مع الحاج عماد مغنية.
إنه الشيخ نبيل قاووق، ولمن لا يعرفه، لقد عاين كل تفاصيل الحياة السياسية والجهادية والثقافية حتى طالته العقوبات الأميركية، عالم دين مخضرم بلكنته الجنوبية، يخبرك عن سرٍ من أسرارِ لبنان وتاريخ المقاوم حيث كان يحمل مسؤولية منطقة الجنوب آنذاك.
عاش تفاصيل الجنوبيين ومعاناتهم، فتراه يتنهد عند سرد قصة هنا أو خبر هناك.. هو الجنوبي بامتياز، فكل معاناة الإحتلال لجنوب لبنان خبرها، وعاش تفاصيلها. في صوته حنين لتلك اللحظات.. وعند ذكر يوم التحرير ٢٠٠٠، يغمض عينيه خلف تلك النظارات، مستعيدًا ما كان في ذاكرة المقاوِمة..
هو أول انتصارٍ عربي على الصهاينة، إذ إن تراكم الإنجازات أوصل العدو لليأس وكل محاولاته كانت عبثية، حتى العمليات الأمنية لتصفية المجاهدين باءت بالفشل، ومنها عملية أنصارية التي كبدت العدو خسائر فادحة مادية ومعنوية ونفسية.
في الواحد والعشرين من أيار ٢٠٠٠ خططت المقاومة للدخول الى القنطرة ودير سريان عبر بلدة الغندورية وكانت المواكب المدنية تقتحم بموازاة مواكبة عسكرية من المجاهدين منعاً لارتكاب العدو الصهيوني أي حماقة. فكانت كلما تدخل الجموع قرية ينضم اليها آخرون لتكبر المواكب وترتفع الأيادي نصرة للتحرير.
يذكر اسم الشهيد سليمان رمال الذي كان بجرافته يفتح الطريق بين قريتي الطيبة والعديسة فاستهدفته دبابة ميركافا كانت في مستعمرة "ميسكاف عام". كان مصير الدبابة التدمير الكلّي من شباب المقاومة ما أسفر عن مقتل ٣ صهاينة بينما القوافل مستمرة بالدخول إلى شقرا وحولا.
يُكمل الشيخ قاووق كلامه بصوتٍ شجي وخافت وكأنه يأخذك الى تلك الأماكن وحدك، يجعلك تجول من بعيد مع ذاك البحر الجارف من البشر.. هو انتصار عسكري وأمني وسياسي وأخلاقي وحضاري قلّ نظيره "فلا ضربة كف ولا استعلاء ولا شروط على أحد، حتى أموال العملاء وبيوتهم هي حرام علينا لا يمكن لنا مسّها".
أحد القادة الأمميين بعد أن استطلع كل الأجواء وعاين بخبرته كل التفاصيل، كان مدهوشاً أمام ما حصل، فقال للشيخ "إنني أعجَب كيف لجيش منتصر دخل كل تلك القرى ولم تحصل أي اضطرابات أو اضطهاد؛ في كل حياتي كنت أشاهد الويل والدمار أو حالات شاذة قد تحصل لكن في أيار ٢٠٠٠ لم أشاهد أي مظاهر للاستعلاء أو للاذى من منطلق القوة أو نشوة الانتصار".
نعم كان معجبًا بكل ما حصل ومتعجبًا، فكان جواب الشيخ قاووق أنها مدرسة أهل البيت(ع) "فنحن نرتسم بأخلاقهم، ومدرستهم هي قدوتنا، نحن مقاومة لتحرير الارض والعرض والانسان".
كان الدخول الى المناطق المسيحية في الرابع والعشرين من شهر أيار ٢٠٠٠ يشبه الدخول الى البيوت الآمنة فلا مظاهر لسلاح أو جيوش أو مقاومين.. كان الكل مدنياً بما فيهم الحاج عماد الذي أصرّ على الدخول دون لباس وأعتده عسكرية، حتى أنه حرص على عدم دخول مجموعة صغيرة منهم منعًا من أي التباس أو خوف لدى الاهالي.. كان الشيخ نبيل أول المتصدرين مع الحاج رضوان للوصول الى كنيسة ليؤكد لرعاياها أن المقاومة أتت لمساندتهم وتحريرهم من رجس الصهاينة.
لا شيء يشبه تلك اللحظات؛ لحظات الحرية وكسر القيد وصرخة المعتقلين في الخيام الذين ظنوا للوهلة الأولى أن القادم هو لتصفيتهم لا لكسر قيودهم.. فإذ بوجوه أهالي منطقتهم يصرخون أن القيد سينكسر والقدر سيستجيب تحت وطأة صواريخ المقاومة ودمائهم التي عبرت كل الحدود.
يستذكر الشيخ نبيل ذاك العمود الذي شهد على أرواح ارتقت من شدة عذاباتها وهي معلّقة لأيام وليالي على ذاك العمود، فيما القسم النسائي في المعتقل يشهد على بربرية وهمجية الصهاينة فأدوات التعذيب كانت الشاهد على تلك الآلام ومنها الكهرباء والمقاصل.
كل شيء كان وكأن الله أعدّه مسبقاً، نشوة الانتصارات التي كانت تتوالى واحدة تلو أخرى تؤكّد أن عمل المقاومة كان تراكمياً وصبر الأهالي وتعاونهم أينع ثمراً وحرية.
كانت كلمات الحاج عماد لا تزال تتردد على مسامع الشيخ، ففي الرابع والعشرين قال له الحاج "باذن الله سنقاتل العدو بأسلحة إسرائيلية.. أنظر الى هذه الغنائم".
أجمل المشاهد بعيون الشيخ قاووق بعد تحرير كل الأراضي والقرى، كانت خصوصية مشهد معتقل الخيام وتحطيم القيود، مع مشهد أولئك المقاومين الذين كانوا يجمعون أعلام العدو الصهيوني المتفرقة على الأرض، عادت الذاكرة لعام ١٩٦٧ عندما كان الصهاينة يجمعون أحذية الجنود العرب الذين هربوا من أرض المعركة.
نعم لقد ترك العدو عند هروبه ذليلاً كل أسلحته وعتاده وخططه ومعلوماته.. لم يستطع أن يأخذ سوى قدميه ورأسه من المعركة، لم ينجو حتى نفسياً، أخذ وقتاً طويلاً ولا زال يدفعُ الثمن غالياً.
جهود قائد قوة القدس اللواء الشهيد قاسم سليماني لا تغيب عن الشيخ عند الحديث عن الانجاز، فقد كان حاضرًا في تطوير قدرات المقاومة حيث استطاع أن يقفز بها عشرات السنوات، وكان بناؤه قائمًا على ضرورة محاصرة الكيان الصهيوني، فأنجز معادلة الكماشة التي تحاصر العدو بالصواريخ النوعية والدقيقة وكان الحاج عماد الرفيق والمخلص والجهادي الكبير والعقل المثابر المتيقظ لكل التفاصيل في أيام التحرير، ولا زالت مقولته تكسر كل جبروتهم.
في كل لحظات النصر، كان العنصر البشري خزاناً من القوة والثبات والانتصار، فصرخة داني بزي التي دوت في أرجاء المعتقل لا زال صداها يُسمع مع كل تصفّح لصورته التي لا زال أبناؤنا يتساءلون عن سرها.. وحدها تلك الصورة أثبتت أن النصر يولد من رحم المعاناة وأن الثبات على الحق يقدّم انتصارات للأوطان.
لا شيء يضاهي الحرية، حرية العقل والانسان والاوطان وهو ما تسعى إليه المقاومة في كل مكان.
أيار أصبح عنوانًا جديدًا لتصويب التاريخ منذ عام ١٩٤٨، فلم يعد أيّار عنوانًا للنكبة، بل أصبح عنوانًا لكل الانتصارات، وقدر الأمة أن تتحرر فلسطين وأن يزول الاحتلال. هو وعد لن نتركه ولن نتخلى عنه ما دام في العرق دم وفي القلب نبض ليكون فجر انتصاراتنا في الأقصى .. ويكون العماد والقاسم أطياف انتصارات جديدة.